بعض الأمكنة تشبه بشرها. تشبههم من حيث كمّ الارتياح الذي تهبه لزائرها والعابر؛ أو حتى المقيم. تشبه بشرها من حيث الدفء الذي تستقبلهم به، ومن حيث الأحضان المفتوحة على الطِيبة التي لا تحتاج إلى إثباتها بالنظر، بقدر ما تشعر بحقيقتها تسري في روحك ودمك وحتى مفاصلك. أمكنة توقظ فيك الروح، وتأخذ بيدك كي ترتفع أكثر وأكثر عن الأرض التي اعتدت أن تكون ملتصقاً بها. أمكنة تعلّمك بأدب جمّ كيف تحترم تفاصيلها، من هواء وشمس ونبات ودابٍّ على أربع أو زاحف. لكل من أولئك قيمة ومعيار؛ لذا ترى الإنسان في مثل تلك الأمكنة، مكيناً متمكّناً سيّد التفاصيل فيها، باحترام متبادل لا يُمكن لأي عين أو إدراك أن يغفلا عنه أو لا يصلهما شيء من العقد غير المكتوب.
التعامل مع الأمكنة بمعيار الأشياء، تجاهلاً واستفزازاً أو نكراناً في بعض الحيان ينمُّ عن جهل مركّب؛ وإن لم تبرح «الشيئية» واقعاً إلا أن تجاوز ذلك التصنيف في التعامل معها يكشف في الدرجة الأولى مدى تحضّر ورقيّ الإنسان. مثل ذلك التحضّر والرقيّ هو الذي يعمل عمله في امتداد ذلك كله إلى المكان في «أنْسَنَة» يتشرّبها وتمتد إلى تفاصيله؛ ما يجعلنا جميعاً نشعر بتلك الروح الكامنة فيه، والمتغلغلة في تفاصيله.
تأخذ الواحد منا نواحي الأرض، لجوءاً أو سياحة، أو تعلّماً أو انتخاباً لوطن مؤقت لا يمكن أن يحلّ محلّ وطن أصيل إليه هبط وأقام واستقر وتشربّت روحه منه. النواحي تلك إما أننا وجدنا فيها شَبَهاً ما في أرواحنا قد لا نستطيع الوصول إلى تفسير نهائي وحاسم له، وإما أننا نشبهها في جانب يدفعنا إلى الإنشداد إليها، من دون أن نحتاج إلى عناء تفسير لكل ذلك.
في المقابل، ثمة أمكنة لا تريد أن نكون على صلة بها، مهما حاولنا الدنوّ والاقتراب منها. أحياناً لأننا مضطربون ونعاني من خلل في الاستواء، وأحياناً أخرى هي من تعاني من كل ذلك.
أحياناً يبحث المكان عن هويته فيك ومن خلالك. مختبر هو المكان لجسّ نبض من تكون وكيف أنت. مجَسٌّ لا يمكن أن يكون ببصيرة تائهة. بصيرة يمكنها قراءة ما قبل وما بعد. ما دون وما فوق. ما هو أجدر وما هو أولى بأن يكون في دائرة العدم.
أمكنة نتصالح معها. أمكنة تتصالح معنا. نتصالح معها مادامت قادرة على تمييز ملامحنا. مادامت خطنا الأول في الدفاع عن الضروريّ والحيويّ من تفاصيل ما نحياه. أمكنة لا تتصالح معنا مادمنا في الطرف القصيّ من الحياة والحسّ. في الطرف الآخر من الغياب.
لا يمكن أن تُحبّ أمكنة تترصّدك، وتبحث عن فرصة لتوردك المهالك. لن يحدث ذلك إلا ببشر؛ أو ما نظن أنهم كذلك، ليس من مصلحتهم أن تستتبَّ الأمور وليس من مصلحتهم أن يكون الإنسان أساساً متصالحاً مع محيطه وبشر ذلك المحيط.
ليس فقط الناس على دِين ملوكهم، الأمكنة أيضاً على دين ملاّكها أو ملوكها، وينعكس عليهم شيء من ذلك الدِّين وإن لم يكن دِيناً. قد يكون مزاجاً، إهمالاً، انتقاماً، وأحياناً رعاية في ذروتها ورهافة حسّها تصل أوْردة المكان وتنعكس عليه.
أحياناً تبحث عن هويتك في المكان. المكان يمكن أن يقوم بدور في هذا الصدد. يمكنه أن يقدّمك... يُعرّف بك؛ ولكن لن يدّعي القدرة على تزكيتك في مهبّ هذا الصَلف والهروب إلى الأمام.
الأمكنة لا يمكنها أن تشبهنا وقد تمّت تهيئتها لأن تكون طاردة ومنفّرة؛ أو محصورة لبشر دون آخرين.
الأمكنة في المجتمعات المغلقة، بدءاً بالمستوطنات التي تُزرع عنوة وغصْباً في بيئات احتلال، أو حتى المستوطنات التي عرفتها الأوطان في الداخل، وليس بالضرورة أن تكون تحت احتلال معهود ومتعارف عليه.
المجتمعات المغلقة والمُسوَّرة هي الأخرى دعوة صريحة لكي لا تفكّر في أن تشبهها. أمكنة مثل تلك لا تشبه إلا المنتمين إليها. ومن هم خارجها لا يتمنّون أن يكونوا على شَبَه ولو في اليسير مما يتوهّمون.
كلما حُوصرت الأمكنة بالأسوار كلما كان إيذاناً بتجنّبها والنأي لمسافة عنها؛ عدا الاقتراب من أسوارها. تلك أمكنة سكّانها أخلاقهم في أن يكونوا بدم يتوهّمونه غير دم البشر العاديين. لا يهم أن يكون دماً أزرق أو أحمر. المهم أن يكون دماً لا يشبه دم «الرعاع» و»القرويين» وأبناء الأرياف «المتخلّفين» الذين ولدوا باعتبارهم فائضاً بشرياً.
وبالعودة إلى، الأمكنة على دين ملوكها ومُلاّكها أيضاً كما البشر، يتضح التوافق والفارق الذي يحصل للاثنين: الأمكنة والبشر، بذلك الاستعداد الفطري أو القسري في أن تقبل البشر كل البشر ماداموا مساهمين في حركة الحياة وتراكمها، أو أن ترفضهم لألوانهم وعقائدهم ومنسوب الشرف والكرامة والعزة وعدم الارتهان لأي كائن كان.
ومثلما يحتاج البشر إلى أمكنة تلمّهم وتحتضنهم، تحتاج الأمكنة في الوقت نفسه إلى بشر يرعوْن الاحتضان ذاك، ويؤكدون ويرسّخون حيويتها ومركزيتها في الوجود بحيوية ومركزية البشر أولئك؛ علاوة على ذلك، بعض الأمكنة تزدري البشر الذين لم يرقَ بعضهم إلى الطوب والشيء من تلك الأمكنة.
الساحات البكْر والمفتوحة من الأمكنة دعوة صريحة للدخول في ضيافتها؛ على النقيض من المجتمعات والأمكنة المسوّرة والمسيّجة. الحدائق والحقول لا تكون مبهرة وجميلة وضالعة في الحفاوة واتساع الأحضان ورحابتها إلا حين تكون عدوّة ومناهضة للأسوار والحَرس والخَفَر الذين يُفقدونها اللبّ والصميم من جمال هيئتها وروعتها وبساطتها وبكْر وجودها وحالاتها.
البحار التي تُردم وتُسوّر والفضاءات التي في طريقها إلى التسوير والتسييج أيضاً لا تشبهنا ولا نريدها أن تشبهنا. لسبب بسيط؛ لأننا نحبُّ أرض الله من دون خرائط تدخل في الميراث الشخصي، وفي جولة عابرة يتم تحديد ذلك الميراث. لأننا نحب الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يورّث أحداً أرضه وخلقه يفعل بهما ما يشاء. تلك أمكنة على دين ملوكها. هل تموت الحياة والأمكنة ومخلوقاتها حين تذهب في الاتجاه المعاكس بعيداً عن دِين ملوكها؟ فقط أسأل ولا أنتظر الإجابة.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3810 - الأحد 10 فبراير 2013م الموافق 29 ربيع الاول 1434هـ
كلام جميل
كلامك استاذي جميل لكنك بأدبك توغل في الرمزية واللغة المغلفة كأنك تكتبها لبعضا من النخبة فقط .
نعم احيانا في كتابتك تستخدم الرمزية وتعجنها مع افكار واضحة الدلالة ولكنها تصل كمشرط جراح محترف الى الجرح مباشرة لتداويه .. او تستأصل ورم خبيث من جسد مريض منهك ولا يعرف سبب علته .
رغم علتنا هذه الايام معروفه حتى للطفل ، فكل ينشد فك السجون وايقاف التعذيب والبدأ بالحوار البناء مع قلب شجاع كريم وان كان عدواً . لكنا بٌلينا بعدوا طبعه المراوغه والمكان لا يألفه ولا كتابنا الكريم يعرفه .
مقال مفعم بالاحساس
ان الله خلق البحر والاشجار والبساتين والطبيعه لمواساة الانسان والاستفاده من ثمارها وفي يوم الازمات والقحط لا يحتاج الانسان الى عماره او برج او ناطحة سحاب بل الى ما تنتجه ايادي البشر من خيرات الارض فالانسان في اكثر الاحيان يفسد ولا يصلح ما وهبه الله له
جميل
جميل ما تكتبه ، لغة الادب عظيمة الجمال عميقة الجوهر بديعة الهدف والقول