هناك معضلة اجتماعية ـ تاريخية تواجه نجاح الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية، والمعضلة لا يمكن حلّها أو تجاوزها بالفوز بغالبية مقاعد المجالس التشريعية والتنفيذية، وإنما في التوصل إلى تعيين مكامن الضعف في مجتمع يمر في مرحلة انتقالية تعرّض في فترته المعاصرة إلى استبداد (سلطة كلية مطلقة) أبطل السياسة وعطل النمو المتوازن للجماعات الأهلية وأسهم في تكوين صورة مشوّهة عن تطوّر استنسابي متذبذب في مؤسساته وهيئاته ورموزه، ما أدى إلى حصول هزات سياسية ارتدادية نجم عنها نهوض قوى هي أقرب إلى ردة الفعل من الفعل، وكشف عن وجود ثغرات بنيوية تتجاوز حدود منظومة الأحزاب العربية المعاصرة.
معضلة الديمقراطية في المجتمعات العربية لا تتحمل مسؤوليتها القوى الإسلامية الصاعدة، لأن أساس المشكلة يتصل مباشرة بالاجتماع الأهلي وضعف «المجتمع المدني» بوصفه القوة السياسية الرديفة للدولة. فالدولة البديلة، حين تكون مولودة من نظام علاقات موروث عن سلطات الاستبداد، تعاني عادة من تخثر بنيوي ناجم عن سياسة اقتصادية ريعية نجحت في تهميش القوى المنتجة وعزلتها في إطارات لا تستطيع أن تلعب دورها الوظيفي في دمج الجماعات الأهلية وإعادة تشكيلها «طبقياً». فالتجمعات السياسية هي أقرب إلى التكتلات. والكتل مجموعة علاقات أهلية (طائفية، قبلية، مناطقية) تتحكم بها آليات تخضع لشروط الواقع.
الديمقراطية حتى تنجح، تحتاج إلى مؤسسات لحمايتها من التطرف الذي يفرّط في استخدام الحقوق، إلى حد يعطل مصالح القوى الأخرى أو المنافسة. والمؤسسات لابد أن تكون دستوريةً حتى تمتلك الحق والصلاحيات في ممارسة وظائفها التي تبدأ بضمان المساواة ومنع الطغيان باسم سلطة الغالبية. فالغالبية ليست معصومةً عن الخطأ، لذلك تحتاج دائماً إلى أجهزة رقابة دستورية (محكمة عليا) تضبط إيقاعها وتحد من احتمال انحرافها عن مسألة العدالة، والانزلاق نحو استبداد الغالبية (خصوصاً إذا جرى تغطيته بالقانون والسلطة التشريعية) الأمر الذي يتطلب اتخاذ إجراءات احترازية تكفل عدم التهوّر أو تخويف الأقليات ودفعها رويداً نحو الهلع والانكفاء على الهوية الصغيرة والضيقة.
المعضلة كما تتمظهر في المشهد العربي الراهن، لا تقتصر على استخراج نصوص، واستبطان مفاهيم توفق بين الديمقراطية والشورى كما جرت العادة في السنوات والعقود الماضية، وإنما باتت الآن تتمثل في كيفية تعامل القوى الإسلامية مع مشكلات متوارثة ومستعصية على الحل، وتحتاج إلى عقلية تسووية متصالحة مع الآخر، وتدرك خطورة انهيار الدولة وتبحث عن قنوات دستورية تستطيع إنجاز المهمة الضائعة في الصراع الايديولوجي بين الأحزاب، وهي تتكثف الآن في اتخاذ خطوة التقدم نحو «العقد السياسي» الذي يؤسس دولة متصالحة مع مجتمع متأزم ومهدّد بالتبعثر إلى هيئات أهلية مستقلة.
بسبب صعوبة الوضع وتعقيداته يرجح أن لا تنجح القوى الإسلامية (سلطة الغالبية) منفردةً في تفكيك المعضلة وتركيبها. فهي في النهاية تحتاج إلى اتفاق إطار يحقق المصالحة في سياق دستور يعتمد مبدأ التراضي (التوافق) بين المجموعات الأهلية، حتى لا تنهض حركات مضادة تطالب بالانفصال خوفاً من تآكل حقوقها تحت سقف «صناديق الاقتراع» وقبضة سلطة الغالبية.
هناك مهمة اجتماعية تضغط باتجاه إعادة إنتاج ديمقراطية تنسجم مع الخريطة السياسية للجماعات الأهلية. وجوهر الديمقراطية المعدّلة يقوم على قاعدة احتواء الانشطارات التقليدية المتوارثة التي تحتاج إلى وقت لدمجها في دولة دستورية جامعة لم تولد بعد أو هي في طريقها للنمو والتأسيس.
هذه المعضلة لم تعد موجودةً الآن في أوروبا، لأن الانقسامات في بلدان تلك القارة اجتماعية (طبقية) أو ريفية مدينية، بينما الانقسامات في البلدان العربية انشطارية عمودية (أهلية) تتمتع بخصوصية ثقافية (لونية أو دينية أو أقوامية) تتعايش مع ما يمكن تسميته بالمجتمع السياسي.
مع ذلك يمكن الاستفادة من بعض التجارب الديمقراطية في البلدان الأوروبية التي تعاني من استقطابات أهلية تعطل إمكانات الدمج في الدولة. وهذا ما نجحت الدولة (التي تعتمد مبدأ الديمقراطية التوافقية) في تحقيقه جزئياً في النمسا وسويسرا وبلجيكا وهولندا، حين اتجهت نحو الاعتراف بالتعددية وأقدمت على توفير تقنيات (قنوات) دستورية لضبط التوترات بين مكونات المجتمع الأهلي، وإعطاء فسحة للأقليات بالاندماج سلماً ومن دون قلق أو خوف في إطار بيئة ثقافية (حضارة جامعة) يتحكّم قانون الحرية في إدارة سلطتها. (راجع كتاب «التوافقية ـ النظرية وتطبيقها في لبنان»، مجموعة مؤلفين، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق).
نظام المحاصصة أو الفيدرالية الأهلية يشبه الفيدرالية الجغرافية في آليات إنتاج السياسة وضمان اتحاد الدولة، لكنه يختلف عنها في تأسيس وحدة اجتماعية مشتركة تخضع للقانون العام (المركزي) والدستور الوطني. فالتراضي هنا يعني التوافق (التكامل) على مبدأ الوحدة المركزية في مسار متلازم مع الاعتراف بخصوصية كل جماعة أهلية. هذا النظام التسووي فيه الكثير من المخاطر والسلبيات، لأنه من جانبٍ يؤخّر نمو ظاهرة المواطنة (الهوية الوطنية)، ولأنه من جانب آخر يفترض ضمناً وجود نخبة واعية قادرة على التقاط حاجات اللحظة التاريخية وما تحتضنه من منزلقات سياسية.
سلبيات نظام التراضي ومضاعفاته تبقى أفضل من مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات العرقية ومغامرات الانفصال أو انشداد الجماعات إلى الحلقات الضيقة (الحكم الذاتي) في مناطقها. فالتراضي لا يلغي نظام الانتخاب النسبي وحق الاختيار ومعادلة الأكثرية والأقلية، لكنه يمنع، في حدوده الدنيا، تحكم الغالبية بالأقليات والعصبيات، ويعطي فرصة سياسية زمنية للجماعات الأهلية للاندماج في الدولة ودستورها من خلال ضمان تمثيلها في المجلس التشريعي والسلطتين التنفيذية والقضائية.
معضلة الديمقراطية في البلدان العربية (المنتفضة على الاستبداد) لا تقتصر على القوى الإسلامية وطموح بعض الأجنحة للتفرد بالقرارات السياسية، وإنما هي تنبع أساساً من طبيعة تكوين المجتمع الأهلي (ضعف الدولة وعجزها عن توحيد السوق) وما ينتج من ذلك من انشطارات تقليدية تنتمي إلى مرحلة ما قبل الانقسامات المدنية. هذه التضاريس تتطلب خريطة طريق سياسية تتجاوز الديمقراطية في طبعتها الأوروبية، لكون ثقافة المنطقة وانقساماتها وتكوينها الاجتماعي وتطورها التاريخي ونموها الاقتصادي وأنماط تعايش الدين مع الدولة، مختلفة عن تلك السائدة في أوروبا. إلى ذلك هناك التفاوت النسبي (العددي) بين الجماعات الأهلية (الطوائف، الأقليات) الذي لا يمكن أن تنجح آليات الديمقراطية في الكتب المدرسية والبيانات الحزبية في حله بعيداً من الواقع الذي يفرض شروطه. فالديمقراطية في إطارها العام هي مجرد جهاز للفرز والدمج (قوة غير واعية) بين القوى السياسية، لكنها لا تعني بالضرورة المساواة. المساواة تحتاج إلى دستور يعطي كل القوى حقوقها ويعترف بها بوصفها ذاك الجزء الذي لا يتجزأ من المجتمع.
نجاح القوى الإسلامية في الانتخابات النيابية في تونس والمغرب ومصر والبحرين والعراق مسألة عادية قياساً على القانون المتبع (الأكثرية والأقلية) في إطار العددية النسبية للأصوات. فالناس تنتخب الأقرب إليها ومن يشبهها وتتجنب الانحياز إلى الأحزاب الايديولوجية المعاصرة. لكن القانون العددي النسبي يتحوّل عادةً إلى معضلة في مجتمعات تعددية منشطرة تقليدياً إلى جماعات أهلية. هذه الخصوصية التاريخية تحتاج فعلاً إلى نسخة ديمقراطية عربية مطوّرة ومعدّلة (تكاملية) تتناسب مع طبيعة التضاريس الاجتماعية للجماعات الأهلية.
والديمقراطية المرنة والمتجانسة مع تكوين مجتمع تتعايش فيه سلسلة أنماط من الإنتاج والهويات الصغيرة، يكون نصيبها النجاح المعقول لأنها تلعب دور الحاوية التي تجمع وتمنع التسرب والانسياب. وبطبيعة الحال حين تكون الديمقراطية حاويةً يتساوى في إطارها المواطنون، تصبح الدولة أشبه بالمظلة التي تشدّ الأطراف إلى مركز الوسط حتى لا تتعرض للتعثر والانهيار كما حصل في الصومال والسودان.
المعضلة أعمق من تلك القراءة المتسرعة (المؤامرة الكونية) وهي في أساسها تتجاوز وعي النخبة الإسلامية وطرق تعامل أحزابها مع واقع اجتماعي فسيفسائي في تكوينه وألوانه. المعضلة بنيوية ـ تاريخية تتصل بطبيعة مجتمعات أهلية تحتاج إلى جهد الكل، وأيضاً إلى دستور دولة يوحد التشكيلات في اتفاق إطار (العقد السياسي) يعطي دفعة نوعية للتقدم نحو طور المدنية والحرية. والاتفاق الدستوري لا يعني أن الأمور المستعصية تاريخياً دخلت فوراً في سياق الحل، لكنه على الأقل يقدّم قراءة قانونية تميّز ما بين مرحلة المعارضة… ومرحلة الحكم.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3807 - الخميس 07 فبراير 2013م الموافق 26 ربيع الاول 1434هـ
المدنية
المؤسسات المدنية ترتبط بالحداثة ونشوء مؤسسات الدولة بشكلها القانوني والدستوري وبرمجة الحقوق والنشاطات ضمن الأطر القانونية ، وضرورة توسع مجالات تنظيم هذه الحقوق وفق ضوابط قانونية ودستورية وذلك في ضوء التطورات والممارسات الديمقراطية ، لذا فأن نجاح قيام المؤسسات المدنية لا يمكن تحقيقه دون الاعداد للعوامل المؤهلة لقيامها، خاصة توفير أرضية قانونية ودستورية تمنع الهياكل والهيئات ذات الطابع النفعي المتخلف والتي تشكل عامل إعاقة وهدم أمام هذا التطور على المستوى الوطني ..س.د.مع التحية
تناقضات من الفوضى لن تولد الا فوضى
من الصعب أن يقبل العقل أن يكون إسلام سياسي وتعامل الناس بالسياسة وليس في الدين باب اسمه سياسة. فمن باب التقوى والمغفرة أن لا يكون إحتراب على المناصب والمكاسب، وهذا يناقض وينافض إن خير ما استأجرت القوي الامين، وكما يتعارض والديمقراطية حيث الأكفاء يكون مكانه وليس القرعة والاختيار.
فما الحيل الجديدة التي سيبتكرها الناس؟