ومن أمثلة الاختلاف في التأويل، الشعار الذي رفعه جيش الإمام علي في مقابل جيش معاوية «... نحن ضربناكم على تنزيله، واليوم نضربكم على تأويله ...»، ثم مقالة الإمام علي المشهورة: «كلمة حق يراد بها باطل»، وذلك بشأن الغلاة والتكفيريين والخارجين على الشرعية في قولهم «لا حكم إلا لله».
كما نستذكر هنا وصية النبي (ص) للمسلمين في حجة الوداع: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فربّ مبلّغٍ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض...»، كما روته كتب الأحاديث (البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهم).
ولم تشهد الأمة الإسلامية بعد عصر الخلفاء الراشدين الأربعة أو الخمسة، حكومةً يمكن وصفها بأنها حكومة شرع الله وعدله حتى يومنا هذا. وطغيان الحكومات المتعاقبة التي قامت تحت راية الخلافة الإسلامية وفسادها ودمويتها لا يختلف عليه المؤرخون والباحثون الأحرار في هذا العصر المنفتح على أجواء التحرّر والعدالة الاجتماعية... اللهم فيما عدا وعّاظ السلاطين.
وقد وعد الله المؤمنين المسلمين في كتابه العزيز بقوله تعالى: «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهمّ في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون» (النور،55). وهذه الآية نزلت أصلاً في المهاجرين والأنصار بعد قدوم النبي للمدينة، وكانوا في خوف شديد (تفسير السيوطي، ص 365)، وهو الوعد الذي تحقّق في زمن الرسول الكريم بانتصار دولة الإسلام والمسلمين. ولكن هذه الآية الكريمة التي تحمل الوعد الإلهي للمسلمين المؤمنين في عهد النبي، لاتزال تتدفق بالخير والأمل لجميع المؤمنين الصالحين في كل زمان ومكان، وهو وعد بيد الله مقرونٌ بشروطه وتوقيته.
وتعمّ العالم العربي والإسلامي في هذا العصر ظاهرة الصحوة الإسلامية المباركة، ولكنها مع الأسف لم تستقر حتى الآن على مفهوم مشترك، ولا مشروع إسلامي متكامل متفق عليه يتفوّق في التطبيق العملي على غيره من التشريعات الحديثة المتطورة لدى الدول المتقدمة حضارياً في العالم الحديث. وبين من ينادي بها كدعوة ومن يدّعي ممارستها باسم الدين الحنيف، حربٌ واقتتالٌ وإزهاق للأرواح البريئة وتصارع على السلطة السياسية!
ومعظم التيارات الإسلامية المتصارعة اليوم يطالب بإقامة حكومة تطبق شرع الله بطرقٍ تتراوح بين حركة السلم والتدرج أو حركة العنف والجهاد المسلح، متجاهلةً جميعها أو معظمها، حركة التاريخ وتطوّر العصر وتداخل الأديان والثقافات والأجناس والمذاهب والطوائف والعقائد والانتماءات السائدة في الدول والكيانات التي ينتمي إليها المجتمع الإسلامي ومكوناته.
هذا إلى جانب تجاهل ما ألزمت به تلك الدول نفسها وشعوبها بتطبيق العهود والمواثيق الدولية في جميع المجالات، ولاسيما حرية الرأي والعقيدة وحقوق الإنسان والمواطنة والحكم الديمقراطي العادل... وهي مواثيق ملزمة لا فكاك منها.
هذا النسيج المتشابك من الأديان والمذاهب والعقائد والقوميات وما يترتب على الدولة الحديثة تجاهها من مراعاة حقوق وواجبات في هذا العصر، يختلف تماماً عمّا كان عليه الحال في عصر النبوة والخلفاء الراشدين. فقد أصبح مفهوم الدولة العصرية اليوم، أن تكون راعيةً لمصالح كل الفئات والانتماءات مهما اختلفت مشاربها، وضامنةً لحرية الفرد في الفكر والعقيدة واللغة وسائر الحقوق المعترف بها وذلك تحت مظلة المواطنة.
وممارسة الحكم ضد مصالح الأقليات في الجنس أو الدين أو المذاهب لم يعد مقبولاً ولا ناجحاً، وهو مخالف لحقوق الإنسان والشرائع الدولية. وفي القرآن الكريم آياتٌ بيّناتٌ حول حرية البشر في الاختيار دون إكراه ولا إجبار، كثيراً ما يتغاضى عنها الدعاة السلفيون المتشددون. ومن تلك الآيات وهي كثيرة، قوله تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» (النحل، 125).
ويمكن تلخيص موضوع الاختلاف بين الجماعات الإسلامية ذات التوجه السلمي للوصول إلى الحكم... (خلافاً لجماعات الجهاد السلفية أو التكفيرية التي تدعو لإقامة حكم الخلافة الإسلامية كما كانت في السابق) وذلك في مواقفها بالنسبة إلى:
1. تأييد حكومة الأمّة في مقابل مطلب حكومة الشرع.
2. أو حكومة الشرع في مقابل حكومة الأمّة.
3. أوحكومة الأمة والشرع كما هي في التجربة الإخوانية الحالية في مصر.
فأما حكومة الأمة فتعني الأخذ بالاستفتاء الشعبي على أساس ديمقراطي نيابي، أو شبيه بذلك تحت مسمى مجلس الشورى المنتخب من الشعب باعتباره مصدر السلطات. وهو حلٌّ يناسب جميع الأديان والمذاهب والطوائف.
أما حكومة الشرع مقابل حكومة الأمة، فهو مايزال عنواناً كبيراً غامضاً ومستعصياً على التقنين الحديث، ويحتاج إلى كثير من الجهد من قبل المشرّعين، وفيه مخاطر الاستبداد في الحكم باسم الدين والفتوى ومخاطر تنفيذها بالإكراه والقسر، كما كان الحال في حكم الخلافة الإسلامية عبر التاريخ، باستثناء عصر النبوة والخلافة الراشدة نوعاً ما. ومن المخاطر التي تبدت في الأفق أن تعتبر المعارضة للحكم فساداً في الأرض يطبق بشأنه حكم المفسدين في الأرض.
وحكومة الأمة والشرع لاتزال تجربة جديدة للأخوان المسلمين في مصر، وهي تلاقي معارضةً علنيةً في مصر ومعارضةً صامتةً في إيران، رغم الاختلاف بينهما في التركيبة السكانية والمذهبية والأقليات. ولعل أهم أسباب تلك المعارضة هو منح شيوخ الفتوى الدينية حق الاعتراض (الفيتو) على مجالس النواب المنتخبين وعلى التشريعات القانونية للدولة.
على أن هنالك تجربة أخرى مسكوتاً عنها، وهي التجربة الإسلامية التركية، وفحواها أن يكون الإسلام دين الأمة وليس دين الدولة، وأن أحكام الشريعة في مجملها تتعلق بالأفراد والجماعات وليس بالدول.
لقد خاطب القرآن الكريم الإنسان البشر ليجعله مؤمناً تقياً محافظاً على دينه وأخلاقه، يعمل الصالحات ويؤدي واجباته تجاه خالقه وبني جنسه بالإيمان والمحبة والبرّ والإحسان. كما خاطب الجماعة المؤمنة من أمة الإسلام بمثل ذلك لخلق مجتمع صالح، حيث أنه بصلاح الأفراد يصلح المجتمع.
وفي شأن الدول والممالك والحكومات فقد ضرب الله الأمثال فيما قصّ على المسلمين في سيرة عدد من الأنبياء الصالحين أيّدهم الله لإقامة حكومة العدل والشرع الإلهي بعد أن مكّنهم في الأرض وآتاهم من كل شئ سبباً. وهي سيرة خصّ الله بها الأنبياء -كما تقدم شرحه- دون غيرهم من البشر، ولكنها مع ذلك سيرة تسترشد بها حكومة البشر لانتهاج سيرة العدل في كل زمان ومكان، والله غالب على أمره... بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
إقرأ أيضا لـ "تقي محمد البحارنة"العدد 3806 - الأربعاء 06 فبراير 2013م الموافق 25 ربيع الاول 1434هـ
بارك الله فيك
نستطيع القول بأن مقولة الإسلام صالح لكل زمان و مكان ليست دقيقه ولا حقيقية لأن العدالة طبقت فقط في عهد الرسول ص و الخلفاء الراشدين و كانت هذه الفترة ناجحة نوعا ما أما الآن و في عصرنا الحاضر الحديث لا تصلح تعاليم الإسلام. هل هذه الفكرة التي تحاول إيصالها للقراء من بين سطور مقالك
تقي البحارنة
أخي زائر رقم 6 المحترم ..شكرا على تعليقك ..وأنا لا اقول ان تعليم الأسلام لا تصلح لهذا العصر ..أنا اقول ان الاية " وأن احكم بينهم بما انزل الله "تختص بالقضاء وليس الحكومة المدنية في هذا العصر . وأن التعاليم الأسلامية يجب ان يتقيد بها المسلمون لتصلح الأمة الأسلامية اذا صلح افرادها,, وأما ما يختص بالعقوبات مثل قطع يد السارق ورجم الزاني الخ..فتطبيقها حرفيا دون الأخذ بالاراء الأخرى هو موضع اختلاف بين المسلمين والمصلحين والمفكرين الأسلامين والحديث فيه طويل ..
شكرا
نتقدم بشكر الجزيل الى الوجيه تقي البحارنه على هذه الموعظه الحسنه ولكن لاحياة لمنتنادي اليوم كثرة وعاظ الصلاطين في البحرين من المتمصلحين لاكتساب الغنائم والعيش على جثث المواطنين ولايهمهم يوم يلقون رب العباد.
الشكر الجزيل لكم يا كتاب الوسط
نعم والف نعم لما يطلع اى مثقف على هاكدا مواضيع قيمه يبشر بل الخير ان فى امتننا رجال اتقياء محبين للخير اصيلين بمعنى الكلمه بعيدين كل البعد عن الطائفيه البغيضه وعن كلمه الاستكثار يمزجون الماضى مع الحاضر لمستقبل مضى بل العلم والمعرفه كما يقال ان لم يكن للك ماضى فليس للك حاضر
مقال رائع
سلمت يداك
الشكر الجزيل لكتاب الوسط
نشكر الكاتب على هذا الموضوع الشيق والواضح والمتسلسل ، وخاصة في ترابط الأحداث التاريخية بواقعنا المر ،، نتمنى مزيدا من هذه المواضيع
سلمت يداك
نحتاج مقالات استاد تقي عن البخل وعن وعاظ السلاطين