قالت السيدة سميث إن «الفارق بين الأغنياء والفقراء، هو أن الفقراء يفعلونَ كلَّ شيء بأيديهم، أما الأغنياء فيستأجرون من يؤدي لهم ذلك». الوصف دقيق، لكنه لا يحكي «معاناة» الفارق المذكور. الفارق، الذي بسببه يموت أناسٌ من الجوع وآخرون من التُخمَة.
في هذا العالم «اللاعادل» يصوغ البشر مشهد الحياة. بعضهم، يُضَمِّخه بدَمِه الطاهر، في سبيل قضية مُقدَّسة. وبعضٌ آخر، يُلوِّنه بصورة أغلالٍ تشدُّ رجليْه الواحدة للأخرى في زنازين الحبس الظالم. وبعض آخر يصوغه بعدالة حكمه للبلاد والعباد، وآخرون بعطاءات أياديهم البيضاء، وآخرون بإنجازاتهم العلمية، التي تحدّ من بؤس البشر.
لكن، وأمام كل أولئك، هناك آخرون، يصوغون جزءًا من مشهد الحياة عبر آثام يقترفونها فلا يحملها ميزان، ولا يغفرها الخالق. آثامٌ لا تراكمها السياطٍ على الظهور والأكتاف، ولا القتل بالجنازير أو السيوف، ولا بِسَلْبِ حرية أحد، وإنما عبر العيش على أجساد وجماجم المحرومين، والمسحوقين في هذه الأرض، وعلى حسابهم ومن قوتهم وأيام عمرهم القصير.
لنا أن نتخيَّل، أن فرداً من أصحاب الذوات، يُولَد ولم يزِدْ عمره بعد عن بضعة أيام، لكنه يملك من المال الوفير، القادر على إطعام آلاف من الناس، ممن ينتظرون دورهم لشرب ماءٍ آسِنْ. أناس (ولا أدري فعلاً هل هم أناس أم لا) يسكنون بيوتاً لا يُعرَف أولها من آخرها، تَسَعُ لآلافٍ من الناس، ممن ينتظرون سنوات عديدة في قوائم وزارات الإسكان، كي ينالوا مكاناً بحجم الكوخ، ليتوسَّدوا فيه، فيأمنوا القيظ اللاهب، والبرد القارس لهم ولعيالهم.
في عالمنا هناك مَنْ يدَّعِي أنه حوَّلَ الخدمات الطبية في بلاده إلى مراتب متطورة لا تُضاهَى، ليتجاوز في أحيان كثيرة، فيقول انها باتت كما الدول المتقدمة، لكنه يستنكف من الذهاب إليها ليتداوى هو وأبناؤه ومَنْ يلونه، لأنه مُخادِعٌ لا يُصدِّق ما يقوله عن طبابة بلده، فيلجأ إلى بَيْعِ كلامه السمج إلى الناس، علَّهم يُصدقونه فيُكبرونه ويُجلُّونه، لكن هيهات ذلك.
في عالمنا هناك مَنْ لا يُكلِّفون أنفسهم عناء الذهاب حتى إلى الأسواق ليتبضعوا، لأن هناك مَنْ يشتري لهم ما يريدون، من الإبرة حتى الجمل، لذا، تراهم لا يلِجُون الشوارع المزدحمة، فلا تصادفهم الإشارات الضوئية، أو التحويلات المرورية، أو الطرق المتثلمة التي تكسِّر العظام، ولا يشعرون بعذاب البحث عن موقف لسياراتهم الفارهة.
في عالمنا هناك مَنْ يُرسلون أبناءهم إلى فيافي أوروبا وأميركا، والجزر العائمة في المحيطات والبحار، للتصييف والاستجمام والراحة واللعب برغوة الموج، أو بعساليج الأنهر، لأشهر عديدة، فينفقوا على تلك المصايف ملايين الدنانير (بغير وجه حق)، لكنهم لا يشعرون مطلقاً بأطفالٍ هم بين ضلوعهم يتعذبون من أمراض مُزمنة وقاتلة، ولا يحتاجون إلاَّ لصرف خردة مما يُنفق مَنْ أبطرَهُ المال، كي يتداووا من أسقامهم وآلام أبدانهم الفظيعة.
في عالمنا هناك مَنْ يُنفقون الملايين من الدنانير لألسنٍ وأقلام كي تقول فيهم ما ليس فيهم، فتلمعَ وجوههم القبيحة أمام الآخرين، في الوقت الذي يُرمَى المحتاجون من الناس، في غياهب النسيان، فلا يحكي أحدٌ عن معاناتهم لا بألسن تُدندن، ولا بأقلام تكتب، رغم حقيقة ما هم فيه، بل قد يُضاف على ذلك، أن يُشوَّه هؤلاء رغم أنهم منسيون ظلماً.
في عالمنا هناك مَنْ يُنفقون في ليلة قمار واحدة، عشرات الملايين من الدنانير، في الوقت الذي يوجد مَنْ هم غارقون في ديونهم، فيمسِي نهارهم ذُلاً وليلهم هماً. وهناك في عالمنا، مَنْ يقتني «هواية فقط» قلماً أو ساعة بمبالغ فلكيَّة، في الوقت الذي توجد فيه عوائل شريفة محترمة، لا تدري ماذا تُلبس أبناءها في العيد، أو كيف تُطعمهم في ليلة ليلاء موحِشة.
هل يعتقد أحدٌ منا أن الظلم هو فقط، أن يقتل الإنسان إنساناً؟ لا، فهذا أيضاً هو قتلٌ ولكن بشكل مختلف. بل ربما يصير هذا القتل، نوعاً أكثر إيلاماً من سابقه، والذي يزيد الضحية فيه ألماً، فدَمُهُ لا يُراق فقط، بل يُعذب بصورة الفارق أولاً، فتُستفزُّ مشاعره، ثم يرمى إلى حتفه، ليموت ببطء، وهو يشاهد بعينه حسراتٍ العمر التي لا تنتهي.
لا يعتقدنَّ أحدٌ أن العدل يكون فقط بتطبيق القانون والجزاءات الغليظة؟ لا، فتطبيق القانون يسبقه قانون أوَّل، يُعنَى بالمساواة بين الناس، فلا يجعلهم في منازل متباينة بلا حد، ويكفّ يده عن دمائهم، عندها يُمكن أن يُطبَّق القانون المكتوب على مَنْ يخالف ويعصي. هذه هي المعادلة الصحيحة، وإلاَّ لا عدالة ولا قيم يُمكن أن تجري على المجتمعات.
لقد ذُكِرَ في «الكامل» أن الجرَّاح بن عبدالله والِي خراسان كَتَبَ إلى عمر بن عبدالعزيز: إني قَدمتُ خراسانَ فوجدتُ قوماً قد أبْطَرَتهُم الفتنة، فهم ينزُّون فيها نزواً، أحب الأمور إليهم أن تعودَ ليمنعوا حقَّ الله عليهم، فليسَ يكفيهم إلاَّ السَّيف والسَّوط، وكرهتُ الإقدامَ على ذلك إلاَّ بإذنك. فكتبَ إليه عمر: «يا ابن الجرَّاح، أنتَ أحرصُ على الفتنة منهم. لا تضربنَّ مؤمناً، ولا مُعاهِداً سوطاً إلاَّ بالحق. واحذر القصاص، فإنك صائرٌ إلى مَنْ يعلَم خائنة الأعينِ وما تُخفِي الصدور».
هؤلاء الذين لا يعيشون كما يعيش الناس، ولا يأكلون مأكلهم ولا يشربون مشربهم، ولا يركبون مركبهم، ليس مُستغرَباً أن يقولوا للناس كما قالت الملكة ماري أنطوانيت زوجة لويس السادس عشر: إذا لم يكن هناك خبز للفقراء، فلماذا لا يأكلون البسكويت! هنا، لا أعتقد أن الرَّد الأنسب هو غير ما قالته الروائية الإنجليزية جورج إليوت من أنه «يستحيل على المجاملة أن تكون فصِيحة إلاَّ إذا كانت تعبيراً عن اللامبالاة». فتباً لمجاملي هؤلاء واللعنة على اللامبالاة التي هم غارقون فيها.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3806 - الأربعاء 06 فبراير 2013م الموافق 25 ربيع الاول 1434هـ
نعم
سلمت يداك ..مقال رائع
وراء كل هذا البؤس والفقر حقوق مضيعة
البحرين سباقة للمجد ولاتعرف هذه الفلسفات
فبعد ان حظى كل مواطن بغاز مسيل له وسكن خاص حتى يستنشقه جهز له مستشفى لعلاجه به احدث الاجهزة الطبية .. كما تخصيص الفائض لمشاريع رائدة في التقدم مثل نادي بحري واراضي لسباقات الفروسية والسيارات ورياضة الركبي ، والرماية ، والصيد البحرين والبري ومنتجعات لتعليم فن البالية وبناء متحف خاص بالصحة ومعهد للاوبراء وتم مؤخراً تخصيص ارضيين لسباقات الدرجات النارية . وبكره مسابقات للفنانين في غرف التعذيب والخير لقدام !
قالت السيدة سميث عن الفقراء
وماذا قال الامام علي عن الفقر قال مارايت من نعمة موفورة الا وبجانبها حق مضيع وما جاع فقير الا بما متع به غني والقائمة تطول .
:)
nice article. I like it
بوركت
أعجبني كثيرا مقالك، وآلمني حال الفقراء، وآسفى حال الأغنياء الذين لا تهمهم أمور الفقراء .
لا تضربنَّ مؤمناً، ولا مُعاهِداً سوطاً إلاَّ بالحق
لمن يخاف ربه
سلام الله على ابو الحسن
ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفىّ هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن: هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى (أي جائعة) وأكباد حرى (أي عطشانة) أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داءً أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد
ماري انطوانيت
كدأبك دائما .. مقال في غاية الروعة و العمق .. بوركت استاذنا..
فقط للتوضيح والتصحيح .. فإن ماري انطوانيت لم تقل تلك العبارة الشهيرة عنها .. في اكثر من فيلم وثائقي (عن الثورة الفرنسية) وافلام سينمائية ينفي المؤرخون انها قالت هذه العبارة .. ولكن دائما ما يصدّق الآخرون اي شيء إذا ما قيل ضد شخص مكروه او ظالم او مبذّر كماري انطوانيت، قطعا ليس مستبعدا ان تقول هي ذلك ،، ولكن للإنصاف لم يثبت ذلك القول لها!!
وانتم ادرى!!
يسلمك ربي
كلام صراحتا في قمة الروعة
ماري
ماري انطوانيت عرفت بفسادها وعدم اكتراثها بالمسحوقين
تحياتي الخالصة اخ محمد
الملك عقيم يا استاذ محمد كيف تبي من ينام بلا هم ويطلع من غير ازدحام ويسافر على كيفه حتى لو ما في حجز يعيش مثلك ومثلي
وهو كذلك
مقال جرئ وجميل كصاحبه . شكرا لك من الصباح