تأخذ الواحد منا لحظات أمل يكون فيها مثالياً، وربما ما بعد المثالية بمراحل. أن يرى الأشياء والأمور بين الواثق من استتباب الأمور، وأن الشاذ والمنحرف منها لا يعدو لحظات مراهقة ولو كانت بعد السبعين! لكن فحصاً للتفاصيل يزجرك ويوبّخك ويقرعك، وبلغة الأمر أن تثوب إلى رُشْدك عن طيب قناعة أو عن غصْب. لا أحد يمكن أن يقرَّ هذا الاستسهال في سفك الدم وسفْحه بأنه حال طبيعية لصراع بين ندّين. واقع الأمر يقول خلاف ذلك. حتى لو كان صراعاً بين ندّين لا يمكن أن يكون الدم على تلك الدرجة من الوضاعة والاستسهال والذهاب به إلى حدّ أن يكون مشاعاً للهو واللعب به.
الأقوياء المرضى لن يتركوا الحياة تمضي على فكرتها وبساطتها بين مكوّنات الجنس البشري الذي لسوء الحظ تجد نفسها (المكوّنات) تحت هيمنة أولئك. لابد للدم أن يكون موضوع إثارة وموضوع استفزاز وتحفز وختل وترصّد. من دون ذلك كله لا معنى لقوّتهم وتأكيد مرضهم المقيم والمستفحل.
ينهمر الدم من كل حدب وصوب، فيجد فيه بعضهم عافيته واستئناسه. كأن انهماك الدم مهرجان حياة. وفي كثير من الأحيان يتم التعامل مع الدم كتعامل أحدهم مع التجشؤ. كأن الدم مصادفة لا ضير في تجاهلها ما لم تكن عنوان ومضمون معرفة وتوقع. لا مكان لمعرفة وتوقع للدم في هذا الهدْر المفتوح على اليابسة والماء. يتقمّص بعضهم صفات الله كلها في الرحمة ولا يتردّد لحظة في أن يذهب إلى النقيض من الضواري، تلك التي لا تُعدم رحمة لها من الصور والشواهد الكثير.
دم أتفه من قطرة في محيط. دم يتمسّد به بعضهم قبل أن يأوي إلى النوم ولو رمزاً. لن يكون رمزاً التمسّد بالدم. لا يتذكر القاتل الذين عبروا إلى مزاجه وجنونه فأرسلهم إلى الحتْف. القاتل يتذكّر فقط الذين تربطهم صلة الدم نفسه. الآخرون ذاكراتهم مثقلة هي الأخرى بوجع دم له صلة رحم لا يُنسى. يهتف ذات نشوة من غرور: لي الحق فيه (الدم) كما لله الحق في أن ينعم على مخلوقاته بالغيث. دم يراه غيثاً. كيف يكون غيثاً ذلك الذي في سفْكه واستباحته واستسهاله نهاية حياة؟ الدم خارج الجسد فتْك صغُر أو كبُر.
مع الاستهانة بالدم تتم الاستهانة بكل شيء في الحياة. الدم هو الفاصل في صحة وسقم أخلاق البشر؛ وسقم الحيوانية؛ من دون أن نهين تلك الحيوانية مقارنة بحيوانية البشر وما دونها في وقتنا الراهن. كأننا نبحث عمّا تبقى من الإنسانية تلك؛ أو ما دون الحيوانية بمراحل، تلك التي مازالت تحتفظ بشيء من الفطرة من دون يمسسها سوء خنّاس البشر.
بدأ البؤس والشقاء مع إراقة أول دم في تاريخ الإنسان وكان بين الإخوة، وبعد مئات آلاف القرون لا يمكن لاستعانة بذلك الدم تحت أي عنوان كان أن تعيد موازين القوى لأي طرف كان. لن تكون عندها موازين بل اختلال يطول كل شيء.
ما جعل ويجعل هذه الحياة غير منذورة للاستقرار ومعرفة طعم التقارب البشري في حدوده الدنيا، أن الدم هو الفاصل في كل خلاف واختلاف. بل يكاد الاختلاف هو الدافع في وعي بشري يطول كثيرين لمحو ومحق وإبادة ما يُفسر أنه الضد مما هو سائد ورائج وتم إقراره.
ارتوت الأرض من الدم ولا دليل صريحاً على أن القَتَلَة والجزّارين في طريقهم إلى الارتواء. كأنه عصب حياتهم ذلك الدم الذي يهرقون، وما يترتب على ذلك الإهراق من مآسٍ وكوارث وعذابات للذين هم على صلة بذلك الدم؛ إنْ في مباشرته؛ أو من طريق إنساني لا يعرف للهويات حاجزاً ومدخلاً لتحسّس تلك العذابات وما بعدها.
يظل الدم مقيماً وإن رحل أو توارى الذين أهرقوه، واستخفّوا بحرمته. يظل النار الموقدة والموصدة عليهم.
نقرأ في الفقه أن من ضمن النجاسات الدم. نجس هو خارج وعائه الطبيعي. ودم حرام أن يسفك في وعائه الطبيعي، وهو آمن مطمئن مسالم لم يؤذِ ولم ينل من صاحب حق ولم يطغَ ولم يتجاوز. حرمة الدم من حرمة الحياة التي لم يخلقها الله كي يأتي صاحب مزاج ويعترض على تلك الحرمة ويكون له رأي آخر يذهب إلى النقيض؛ فيبطش ويحيل كل آمن وادع مستقر إلى اضطراب وشراسة.
هذا الولوغ في الدم، ولوغ في الخروج على فطرة الإنسان. لا يكون إنساناً حين يعتاد ويدمن ويتعامل مع الدم باعتباره «حمّام سونا» من نوع خاص. مثل ذلك دخيل على الإنسان، ولا يدنو حتى من الأشياء التي نعمل على أنْسنتها.
قامت ثورات على الدم، ثم ما لبثت أن أكلت أبناءها سفكاً لدمائهم وتغييباً لهم في أمكنة حجزها. ممالك ما كان لها أن تقوم لولا أنهار من دماء من قَبْلُ ومن بعد. وصار السؤال البدهي: كيف تكون ممالكاً من دون مهرجانات في إراقة الدم؟
حتى الذين كانوا إخوة الدم صاروا إخوة إراقته والمتاجرة به والإثراء على حساب نزْفه. لا أحد سيصاب بالدهشة وانعدام التوازن حين يرى كل خلل الحياة اليوم هو بسبب أن الدم لم يعد يملك القدرة على إثارة من لا حسّ له، ومن جُبِل على الذهاب حتى النَفَس الأخير للتأكد من ألاّ دم ينبض في عروق غير دمه ومن هم على تواؤم معه، فلا تتوقعّن منه أن تكون له علاقة بالدم والحياة في مجملها.
خلاصة للتأمل والتأكيد: دم الإنسان من النجاسات خارج أوعيته الطبيعية. وسفْكه حرام وهو في أوعيته الطبيعية من دون وجه حق. بين الاثنين، تطهير له.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3806 - الأربعاء 06 فبراير 2013م الموافق 25 ربيع الاول 1434هـ
القوم أبناء القوم يا صاحبي
ما تقوم به الأنظمة الشمولية من ولوغ في دماء الأبرياء ليس جديدا بل له عراقة وله تأصيل ديني عند البعض. قل لي، لماذا يقتل ابن بنت رسول الله ويمثل به وبأهله؟ أليس الحكام من قاموا بذلك؟ والناس على أديان ملوكهم.
ربما لبعض يستند الى آية او حديث يستبيح من خلالها الدم البحريني
البعض يستبيح الدم البحريني من دون يرتجف له جفن ولا يخفق له قلب
وكأن الله أمر في آية في كتابه أو جاء حديث عن نبيه باستحباب بل وجوب
اراقة هذا الدم خاصة اذا طالب المواطن بحقوقه في بلده فلا حرمة لدمه
ولا لمقدساته
مقال رائع
فهل من يعتبر ويتعظ ويفهم ما تقول
تحية
ونعم القلم يا جعفر