تنتشر في عصرنا اليوم الدعوات لإقامة خلافة إسلامية جديدة عند البعض من السلفيين المتشددين أو التكفيريين الجهاديين، بالتزامن مع دعوات لإقامة حكومات تعمل بموجب القواعد الشرعية من قبل الإسلاميين المعتدلين.
وحسب الظاهر لا يملك الطرفان مشروعاً إسلامياً متكاملاً متفقاً عليه مع فئات ومذاهب وأديان المواطنين المتعايشين في تلك الدول العربية والإسلامية.
ومما يحزّ في نفس كل عربي وكل مسلم، هذا الوضع القاتم للحالة المزرية التي يعيشها العرب والمسلمون من قتل وتدمير وإزهاق لأرواح الأبرياء، من أفغانستان إلى مالي وما بينهما، وحتى ما جرى في الشيشان، مع التأخر الشاسع عن مواكبة ركب الحضارة والتقدم العلمي.
ويشترك في نسج خيوط هذه المحن دول الاستكبار العالمي من دعاة الغزو والتدمير تحت شعار «محاربة الإرهاب»، مع قواعد التكفير وصيحات الجهاد والقتل ضد مكونات المجتمع الإسلامي ومواطنيه، تحت شعار «تطبيق شرع الله». وكلاهما يدّعي محاربة الآخر.
وحكومة «شرع الله» تعبير غامض يذكّر المسلمين بعبارة الخوارج «لا حكم إلا لله»، تبريراً لمحاربة من يعارضهم من المسلمين. وقد حاولت أن أبحث عن ماهيتها والمقصود من حكومة الشرع والعدل الإلهي، وذلك فيما أورده القرآن الكريم في قصص الأنبياء الذين مكّنهم الله في الأرض وأذن لهم بالملك لتطبيق الشرع الإلهي العادل، فتيسر لي التعرف على خمس منها ذكرها الله في كتابه الكريم:
أولاً: حكومة نبي الله داود (ع): إذ هيأ الله لنبّيه داود أسباباً تمكّنه في الأرض ليحكم بين الناس بالعدل الإلهي، فقد آتاه حكماً وعلماً من عنده، وجعله نبياً وآتاه فضلاً «ولقد آتينا داود فضلاً يا جبال أوّبي معه والطير وألنّا له الحديد أن اعمل سابغاتٍ وقدّر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير» (سبأ، 11). كما آتاه الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء وآتاه زبوراً، وسخر الله معه الجبال يسبّحن والطير وعلّمه صنع الدروع لتحصنه وقومه من الأعداء (الأنبياء، 79-80). ونصره على عدوّه جالوت، وشدّ ملكه وآتاه الحكمة وفصل الخطاب، ثم جعله خليفةً في الأرض ليحكم بين الناس بالحق ولا يتبع الهوى، كما ورد في آيات الذكر الحكيم.
ونستنتج من كل ذلك أن حكومة نبي الله داود كانت حكومة إلهيةً لا تشبهها حكومة البشر، وأن القائم عليها نبي مرسل من عند الله مؤيّدٌ بنصره، وليس بشراً عادياً تتحكم فيه العواطف والأمزجة والميول والغرائز، وقل مثل ذلك بشأن حكومات باقي الأنبياء.
ثانياً: حكومة نبيّ الله سليمان (ع): وهب الله لنبيّه سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، ولم يكن لهذا الملك الكبير أن يكسبه غروراً أو يصدّه عن ذكر الله أو إقامة العدل والدعوة إلى الهدى والإيمان. ولم يقل للسحابة متعالياً ومستأثراً بمال المسلمين، كما قال هارون الرشيد من بعده: «أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك»!
وفي سورة الأنبياء والنمل وص وسبأ وغيرها، ذكرٌ لنبي الله سليمان وما آتاه الله من قوة وسلطان لإقامة حكومة العدل الإلهي والتوحيد. فقد آتاه الله حكماً وعلماً وسخّر له الريح تجري بأمره، والشياطين يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك، وعلّمه منطق الطير والدواب وآتاه من كل شيء، وحشر له جنوده من الجن والطير ومن عنده علم الكتاب ليأتيه بعرش بلقيس كي تُسلِمَ وقومها لرب العالمين. وأسال الله لسليمان عين القِطْرِ (النحاس)، ومن الجن من يعمل له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجِفانٍ كالجواب وقدورٍ راسيات، ليستكمل له عظمة الملك الذي سأل ربه أن يعطيه إياه فأعطاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.
وفيما قصّه الله على نبيه الكريم عن ملك سليمان دروس وعبر للممالك وملوكها، والدول وحكوماتها، في كل زمان ومكان ولجميع المؤمنين. ومن تلك الدروس والعبر أن ملك سليمان العظيم لم يبتنِ على استعباد البشر وتسخيرهم ظلماً وعدواناً كما فعل فراعنة مصر وأشباههم من الجبابرة الطغاة، وإنما بتسخير من قدرة الله عز وجل ورعايته.
والعبرة الأخرى أن نبي الله سليمان لم يستول عليه الاستكبار على الناس بملكه العظيم، بل ازداد تواضعاً لله وعدلاً وإصلاحاً بين الناس وهو يدعو ربه قائلاً: «ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن اعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين» (النمل، 19). ومما يمكن استنتاجه أيضاً عن ملك سليمان، أن عصره كان عصر طغيان وتجبرّ يحتاج دفعه إلى بأسٍ شديد، وأن أهل زمانه كانوا مستضعفين مأخوذين بخداع السحرة وأوثان الشرك، وطريقهم للإيمان هو عن طريق المعجزات والقوى المادية في مقابل العقل الواعي الحر الذي يتقبل الإيمان بالحجة والاقتناع.
ثالثاً: حكومة نبي الله يوسف الصّديق (ع): ولعل قصة نبي الله يوسف من أكثر القصص انتشاراً بين المسلمين، إذ خصّ الله يوسف بسورة كاملة في القرآن. وقد مكّن الله ليوسف في الأرض وآتاه العلم والأمانة والصدق وتدبير خزائن الملك وتأويل الأحاديث، ما مكّنه من إصلاح ما أفسده فرعون الذي طغى في مصر، وأقام على يديه ميزان العدل والتوحيد لله جل جلاله، فحكومته هي حكومة الأنبياء.
رابعاً: قصة ذي القرنين: لم يرد في القرآن الكريم ذكرٌ لذي القرنين في الأنبياء، ولكن ما ورد بشأنه في كتاب الله لاسيما في سورة الكهف، يدل على أنه كان إنساناً مرضياً عند الله ومؤمناً بالله وباليوم الآخر، محارباً للمفسدين في الأرض، عادلاً لا يقبل الظلم ويجازي الظالمين بظلمهم.
وقد مكّن الله له في الأرض وآتاه من كل شيء سبباً، فهو من زمرة من اختارهم الله للحكم العادل بين الناس. ومن العبر في قصة ذي القرنين أنه على قوته وشأنه العظيم، شارك بنفسه وجهدِ بدنِهِ أتباعَه في بناء سدّ يأجوج ومأجوج كواحدٍ منهم، فلم يستعبدهم كالرقيق أو الأسارى، بل طلب منهم أن يعينوه بقوةٍ على ما مكّنه الله لصدّ المعتدين وأصحاب الفساد.
خامساً: حكومة نبي الله ورسوله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام: بعد أن هزم الله الكفار والمشركين وردّ كيدهم عن الإسلام، وأمدّ المؤمنين بنصرٍ من عنده وبجنود من الملائكة مسوّمين، استتبّ الأمن لنبي الله محمد بن عبدالله (ص) وللمؤمنين معه، وتمّ تأسيس حكومة الحق والعدل الإلهي، بعد أن ألّف الله بين قلوب المسلمين ونزع ما في صدورهم من غلّ.
وقد حصّن الله حكومة المسلمين في عهد نبيه الكريم من منابع الفتن والخلاف، ووحّد بين صفوفهم، وذلك بحكم الوحي المنزّل والكتاب المبين وبحاكمية الله ورسوله في كل أمر. ونزلت في ذلك آيات بينات حجةً دامغةً على كل مسلم ليقبل بحكم الله ورسوله دون حرجٍ أو اعتراض، منها الآية الكريمة: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حَرَجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً»، (النساء، 65). وقد تمّ ذلك في عهد النبوة، وبعده ظهر الاختلاف ليس على النص المبين ولكن على الاجتهاد في التفسير والتأويل والنقل.
هكذا إذن قامت حكومة رسول الإسلام على أساس شرع الله وحكم رسوله دون منازع، فهي بذلك خاتمة صفوة حكومات الأنبياء. ولكن الله قادر في كل زمان ومكان على اصطفاء الصالحين من عباده، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
وبعد انتهاء عصر النبوة جاء عصر الخلفاء الراشدين، وكانوا راشدين بسيرتهم رغم أنهم كانوا بشراً لا يدّعون عصمةً من الزلل ولا وحياً من الله.
اجتهدوا في سياسة الحكم وفي تطبيق شرع الله كلٌّ بطريقته وأسلوبه، فأصابوا وأخطأوا كما هي طبيعة البشر. وساعدهم وأعانهم على ذلك اعتماد الشورى بينهم، وقرب العهد بعصر النبوة وصفاء النفوس وتجنب الفتنة والاختلاف ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، حتى ذرّت قرون الفتن بمآسيها الدامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان (رض)، ثم في عهد الإمام علي بن أبي طالب (ع)، ثم انقسم المسلمون بعد ذلك وتحكمت السيوف في الرقاب، وأصبح الحكم بعد ذلك كالكرة يتقاذفها القوي ثم الأقوى... وحريٌّ بالمسلمين اليوم أن يأخذوا العبرة من تلك الأحداث قبل السعي لطيّ صفحاتها.
ومن أهم تلك العبر أن التغلب بالسيف والقهر والطغيان واستباحة الحرمات والأموال والأعراض لا يسبغ شرعيةً ولا يقيم عدلاً، ولا ينشىء حكومةً إسلاميةً صحيحةً بمعنى الكلمة. وأن «طاعة أولي الأمر منكم» لم يقصد بها الله تعالى السفّاحين والقتلة والطغاة المجرمين، وآكلي أموال الناس بالباطل... تعالى الله عمّا يصفون.
ومن العبر الأخرى من دروس التاريخ -وما أكثرها- أن الحكم الشرعي بعد عصر النبوّة ما هو إلا اجتهاد، قد يختلف بشأنه المسلمون، وأن التنزيل الحكيم له تأويلٌ قد يختلف فيه المسلمون أيضاً. وأنه لا يمكن لأية حكومة دينية في هذا العصر أن تضمن الإجماع وعدم تكرار الأخطاء السياسية باسم الدين، أو أن ينشأ بينها وبين رعاياها ما يؤدي إلى الخلاف أو الاقتتال كما فعل الأسلاف من قبل. وأن لا يتكرر تبرير الأخطاء بمقولة «لقد اجتهد (أو تأوّل) فأخطأ...»، ولا أن يكون انتخاب الخليفة «فلتةً وقى الله المسلمين شرّها». وهذا مجرد مثال على الاختلاف في مسألة السياسة والاجتهاد. (يتبع).
إقرأ أيضا لـ "تقي محمد البحارنة"العدد 3805 - الثلثاء 05 فبراير 2013م الموافق 24 ربيع الاول 1434هـ
إبنك يعقوب سيادي
مع أني ضد الدولة الدينية في عصرنا، التي ستقصي وتظلم من على غير دينها، ومن ينقص دينه عنها.
تقي البحارنة
أخي العزيز يعقوب سيادي ..شكرا للتعليق .. وأقول ايضا أن انتخاب الناس لوليهم أيضا لا يعطي الولي حق الطاعة العمياء بل هو عرضة للمساءلة والأستجواب .
إبنك يعقوب سيادي
أشد على يديك في ضواءة السرد الذي جهدت في إستخلاصه، وعبارتك "وأن «طاعة أولي الأمر منكم» لم يقصد بها الله تعالى السفّاحين والقتلة والطغاة المجرمين، وآكلي أموال الناس بالباطل" أضيف اليها أن أولي الأمر هم من ولاّهم المسلمون على إدارة أمورهم الدنيوية، "إدارة الدولة" الأمر الذي لا يتأتى إلا من إنتخاب الناس لوليهم، لا فرق بين رجل وإمرأة، ولا ضعيف و قوي ولا غني وفقير، معياره الرأي المتساوي القوة، وليس الشورى بين علية القوم، يتبع
الدولة الدينية فاشلة في غياب المعصومين
مقال جيد. لايمكن انشاء دولة دينية في دولة متعددة المذاهب والأديان. بعض دول الجوار تطبق الشريعة الاسلامية ولكن على عموم الناس وليس على العوائل الحاكمة. الدولة الدينية لا يرأسها الا معصوم كالأنبياء
تسلم استاذي الفاضل
مقال رائغ وشيق بانتظار القادم واتمني عليكم مواصلة دروب العطاء للتنوير وشكرا لك سيدنا الفاضل