في دراستنا لمفهوم الدولة المدنية لدى المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري، نشير إلى مجموعة من الأبعاد التي ارتبطت بنشأة وتطور الدولة الإسلامية.
البعد الأول ان الإسلام متعدد الأوجه، فمن حيث أصوله هو دين عبادة، كما في قوله تعالى: «وما خلقتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلا لِيَعبُدُونِ» (الذاريات، 56)، وهي عبادة بالمعنى الشامل، فكل ما يفعله الإنسان من خير هو عبادة، وهي ليست محصورة فقط في الشعائر وإنما تشمل كل شيء لصالح الإنسانية. ومن ثم نجد أن إعمار الأرض عبادة لأن هذا الإعمار سر خلق الإنسان: «وإِذْ قال ربُّكَ للملائكةِ إِنِّي جاعلٌ في الأَرضِ خليفَةً قَالوا أَتجعَلُ فيها من يُفْسِدُ فيها ويسفِكُ الدِّماءَ ونحنُ نُسبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَال إِنِّي أَعلمُ ما لا تعلمُونَ» (البقرة، 30). وهو دعوةٌ لتأكيد أن قيام المخلوقات بدورها هو عبادة، مصداقاً لقوله تعالى «تُسبِّحُ لهُ السّمواتُ السَّبعُ والأَرضُ ومَنْ فيهِنَّ وإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحمدِهِ ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم إِنَّهُ كان حليماً غَفُورًا» (الإسراء، 44). وهو دعوة للسعي من أجل العلم والبحث والتفكير، استناداً لقوله تعالى: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كيْف خُلِقَتْ. وإِلى السَّمَاءِ كيف رُفِعَتْ. وإِلى الجِبَالِ كيف نُصِبَتْ. وإِلى الأَرْضِ كيف سُطِحَتْ» (الغاشية 17 - 20).
وهو دعوة للاعتبار والاستفادة من تجارب الأمم السابقة، «قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرضِ ثُمَّ انظُرُواْ كيف كان عاقبةُ المكذِّبين» (الأنعام، 11)، فهو دعوةٌ لإعلاء الفكر واستخلاص النتائج بناء على الفكر والاختيار الحر، أي انه دين الإرادة الحرة للإنسان: «كلُّ نفسٍ بما كسبت رهِينَةٌ» (المدثر، 38)، «وقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَليكفُر» (الكهف، 29)، وفي الوقت نفسه أكّد مبدأ طاعة الله والرسول والحكام «يا أَيُّها الذينَ آمنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَْمرِ مِنْكُمْ فإِنْ تنازعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ والرَّسولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤمِنونَ بِاللهِ واليومِ الآخِرِ ذلك خَيْرٌ وأَحسَنُ تَأْوِيلاً» (النساء، 59). كما أكد أهمية اتخاذ العلماء مرجعاً لقوله تعالى: «فاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تعلمونَ» (النحل، 4).
أي ان الدعوة الإسلامية هنا تجمع بين أوضاع لأدوار قوى أربع، هي دور الله سبحانه الذي هو مصدر كل شيء «للَّذين لا يُؤمِنُون بالآخرةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ المثَلُ الأَعلى وهُوَ العزِيزُ الحكيمُ» (النحل، 60)، «ولَهُ المَثَلُ الأَعلَى في السَّمَاواتِ والأَرْضِ وهُو العزيزُ الحكيم» (الروم، 27)؛ ودور للرسول بحكم تقواه وما يوحى إليه استناداً لنبوته ورسالته؛ ودور لأهل العلم لما لديهم من معرفة؛ ودور للحكام بصفتهم أولي الأمر في هذه الدنيا ويجب طاعتهم. ونستذكر هنا قصة بني إسرائيل مع نبيهم والتأكيد فيها على الفارق بين أسباب اختيار الله لأنبيائه وبين اختياره للحكام الزمنيين لقوله تعالى «أَلم تَرَ إِلى الملإِ من بني إِسرائيلَ من بعدِ موسى إِذ قالوا لنبيٍّ لهُمُ ابْعَثْ لنا مَلِكًا نُقاتِلْ في سبيلِ الله وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قد بعث لَكُم طالوتَ مَلِكًا قالوا أَنَّى يكونُ لهُ المُلْكُ علينَا ونحنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ المالِ قال إِنَّ اللهَ اصْطفاهُ عليكُمْ وزادهُ بَسْطَةً فِي العلمِ والجسمِ والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وبقِيَّةٌ مِّمَّا تركَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الملائِكَةُ إِنَّ في ذلِكَ لآيَةً لكم إِن كنتُم مُّؤمِنِينَ» (البقرة، 246 - 248).
هذه التصورات فهمها المسلمون الأوائل حق الفهم، وأدركوا قدراتهم البشرية المحدودة، فلجأوا للمشورة، وأخذوا بها، ومع تغير الزمن تحول الدين من عملية روحية إصلاحية، جاءت في لحظة تاريخية معينة لهداية البشر، إلى مفهوم مقدس، وتحوّل الكتاب المقدس إلى نصوص جامدة، بدلاً من الاجتهاد بحسب الزمان والمكان والظروف والمستجدات. وتحوّل الاجتهاد إلى أهواء وميول وفتاوى، يدلي بها من ليس لديه القدر الكافي من العلم والمعرفة، ومن لديه قشورٌ من هذا العلم والمعرفة بلا ضوابط وبلا احترام لمفهوم التخصص، فنجد رجال الدين يتحدّثون في أمور تتعلق بعلوم الطب والهندسة والفلك، ويتحدث رجال السياسة في الدين، ويتحدث رجال الهندسة والطب والصيدلة في الدين، ويتحدث من لا يفهمون في الفكر والثقافة والأدب في هذه المجالات وهكذا.
ويزداد الأمر خطورةً ووبالاً عندما يكون هذا المتحدّث في علم ما هو الحكم والمرجع فيما لا يعرف من العلوم والمعارف سواءً دينية أو غير دينية.
المشكلة مرةً أخرى ترجع لعدم وضوح المفاهيم، ولتغير معاني كلمات اللغة العربية مثل باقي لغات العالم، فاللغة كائن حي متطور، تتغير بتأثير الزمن والظروف والمكان، على سبيل المثال كلمة «الأمة» كما جاءت في القرآن الكريم لا تعني الدولة الواحدة بل تعني فرداً واحداً أو جماعةً أو قوماً، وكلمة «الحكم» في القرآن الكريم تعني «القضاء» وليس السلطة السياسية، وكلمة «الحجاب» تعني الستار أو الحاجز ولا تتعلق بالثياب، وكلمة «الأمر» تعني الحكم «أُولِي الأَمرِ»، أي أصحاب السلطة والقرار، وهو لا يعني السلطة المطلقة للحاكم، لأنها مقيّدة بالمشورة «وشاورهم في الأمر» (ال عمران 159) وهكذا.
وقد تغيّر دور الحكام تغيّراً جوهرياً بعد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأصبحت الخلافة ملكاً عضوضاً، وأصبح القرار للسيف والقوة، أي الغلبة وليست الشورى التي ظلت حلماً يداعب خيال المسلمين عبر العصور. أما في الإطار البشري أي الحياة العملية لتطور المجتمعات فان المقولة أو القانون المشهور هو «ان السلطة تنبع من فوهة البندقية».
البعد الثاني: يرتبط بكون الإسلام دعوة لتغير الأحكام الدنيوية بتغير الزمن والمكان والظروف، ومن هنا ظهر ما عُرف باسم مفهوم تاريخية النصوص، وظروف وأسباب ومناسبة نزول النص، فكل نص مكتوب أو مقروء أو مقولة يرتبط بظروف معينة.
المشكلة في النصوص الدينية ان هذه النصوص تغيرت مصطلحاتها نتيجة تغير اللغة، وان المنطق يجعل حكم النص في عمومه يرتبط بظروف خاصة إذا ارتبط بقضايا دنيوية، وهنا نشير إلى ما يسمى أسباب النزول، وهي نقطة خلاف بين مدرستين فكريتين: المدرسة التي تؤمن بقدسية النص القرآني دون ضرورة التطبيق الحرفي لها، والمدرسة التي تؤمن بصلاحية الإسلام وجميع النصوص القرآنية للتطبيق الحرفي بكل زمان ومكان. بل الأكثر تعقيداً وإشكالية أن بعض المسلمين سواءً من عامة الناس أو الفقهاء، منحوا الأفكار والاجتهادات، سواءً في الفكر السني أو الشيعي، قدسيةً خاصةً، وابتكروا لذلك مفاهيم جديدة لتجسير الهوة والتناقض بين الفكر النظري والعالم الحقيقي الذي يعيشه البشر، مثل مفاهيم الولي الفقيه، الامام المعصوم، المرشد الأعلى، الطاعة المطلقة لولي الأمر وعدم الخروج عليه، تكفير المختلف في الرأي، بل توسعوا في مفهوم التكفير وكراهية الآخر المختلف، مع ان أكبر الكبائر في الإسلام هو تكفير من يشهد أن لا إِلَهَ إِلا الهُ وأَنَّ محمّداً رَسُولُ اللَّهِ، وكراهية الآخر والسعي بين الناس بالفتنة تعتبر جريمة مغلظة «والفتنةُ أشدُّ من القتلِ» (البقرة، 191) وقتل إنسان واحد مثل قتل البشر جميعاً «أَنَّهُ مَن قَتلَ نفْساً بغيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْارْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» (المائدة، 32). واتهام المحصنات الغافلات من أكبر الكبائر وهكذا... وللأسف فقد انحرف كثير من المسلمين وبعض رجال الدين عن الفهم الصحيح للدين، وأدخلوا فيه ما ليس منه، وحوّلوه إلى طقوس وشعائر بأكثر من كونه مبادئ وأخلاقاً وقيماً، هي الأساس في أي دين، لقوله تعالى مادحاً نبيه «وإِنَّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ» (القلم، 4)، «ادْعُ إِلَى سبِيلِ ربِّك بِالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ» (البقرة، 125). وهو دعوة للسلام ورد العدوان عند وقوعه، انظر قوله تعالى «وقاتلوا في سبِيلِ اللهِ الذينَ يُقاتِلُونَكُمْ ولا تعْتدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبّ المعتدينَ» (البقرة، 190) وقوله «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم» (61).
كل هذه المبادئ الإسلامية العظيمة تحوّلت فقط إلى خطب ومواعظ وليس إلى سلوك، ومن هنا انتقدها القرآن الكريم بقوله «يا أَيُّها الذينَ آَمنُوا لِمَ تَقولونَ ما لا تَفعلُونَ كَبُرَ مقتًا عند اللهِ أَن تقولوا ما لا تَفعلون» (الصف، 2-3).
لقد تحول كل مخالفٍ في الرأي إلى كافر وملحد ومشرك وعدو يجب قتله، وهانت النفس البشرية في حين أن القتل من أكبر الكبائر، وتحوّلت الدولة المدنية التي سبق أن عرفت في العصر الأول للإسلام إلى دولة ثيوقراطية على الأقل في الفكر النظري، والتطلع إلى الجنة السابقة في العصر الإسلامي الأول، كما ظهرت دعوات لأسلمة العلوم والمعارف مثل مصطلحات «البنوك الإسلامية، الطب الإسلامي، الفلك الإسلامي، العمارة/ الدولة/ الجمهورية/ الملابس الإسلامية، وهكذا حتى ثياب البحر أصبح هناك ما يسمى «المايوه الإسلامي». (يتبع).
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3800 - الخميس 31 يناير 2013م الموافق 19 ربيع الاول 1434هـ
عدة تعليقات
اولا الطلب من الدين عدم التدخل في السياسة هو اول تدخلات السياسة في الدين ! ثانيا انتقاد عدم الحياد والموضوعية والنظر بعين مؤدلجة للقضايا وكأن هذا المقال والاجزاء السابقة لا تحمل اي ايدولوجية، هذا الاسلوب لا ينطلي على الجميع ! ثالثا هل الكاتب من اهل التخصص في الدين لكي ينتقد غير المتخصصين التحدث باسم الدين ؟ اخيرا الامر بالشورى كان ابتداءا للرسول والرسول تجب طاعته مطلقا فهل هذان الأمران متنافيان ؟ ارجو عدم خلط الحابل بالنابل ...
مشكلة المفهوم
المشاكل كثيرة ,منها المفهوم. قد يلا يختلف أو يتفق إثنان على أن لدى معضم الناس مفهوم أو مفاهيم عن شيء ما لكن المعنى لهذه المفاهيم غير موحد. فقد يكون مصطلح متفق عليه وهذا لا يعني أن معنى هذا المفهوم صحيح لكنهم اتفقوا دونما يعرفوا معنى الاصطلاح، بمعنى اصطلحوا على فقط. والسؤال هنا ما معنى المفهوم ؟ وما الفرق بينه وبين المعنى الحقيقي للمفهوم الدولة؟
تقدير
لك خالص التحية والتقدير على هذه السلسلة الرائعة والقدرة الفائقة على إيصال المعلومة للقارئ بشكل دقيق ومبسط، وهنا لدي تساؤل هل تقرأ وتسرد هذه المعلومات من كتاب معين -يمكن للقارئ الرجوع إليه- أم أنك تستخلص هذا من كتب متفرقة، وإن كان كذلك فأرجو أن تجمع هذه السلسة في كتاب، وأمر أخير أتمنى أن تطرح الرؤى أو القراءات الأخرى لكتاب آخرين عن نفس وذات المفاهيم، حتى يكون بحثًا حياديًا ودقيقًا أكثر. قاسم
تقدير
لك خالص التحية والتقدير على هذه السلسلة الرائعة والقدرة الفائقة على إيصال المعلومة للقارئ بشكل دقيق ومبسط، وهنا لدي تساؤل هل تقرأ وتسرد هذه المعلومات من كتاب معين -يمكن للقارئ الرجوع إليه- أم أنك تستخلص هذا من كتب متفرقة، وإن كان كذلك فأرجو أن تجمع هذه السلسة في كتاب، وأمر أخير أتمنى أن تطرح الرؤى أو القراءات الأخرى لكتاب آخرين عن نفس وذات المفاهيم، حتى يكون بحثًا حياديًا ودقيقًا أكثر.