العدد 3796 - الأحد 27 يناير 2013م الموافق 15 ربيع الاول 1434هـ

أن تدرك ما حولك... أن تُجبر على الغياب

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

كم هم الذين يسهرون على القيمة؟ كم هم الذين يسهرون على اللاجدوى والعبث؟ كم هم الذين يُعدّون إضافة إلى هذا العالم؟ كم هم الذين عبء عليه؟ كم هم الذين وجودهم يسبب قلقاً يكاد لا ينتهي في البيئات التي تتحسّس من المحاسبة والمساءلة والاستجواب؟ كم هم الذين وجودهم من عدمه سيّان؟ كم هم الذين في حضورهم غياب؟ كم هم الذين في غيابهم حضور؟

قبل سنوات كتب الشاعر والمسرحي السوري الراحل، محمد الماغوط: «يا رب... ساعدني على قول الحق، ومواجهة الواقع، وتحمّل العطش والجوع والحرمان، وألاَّ أرد سائلاً؛ أو أنهر يتيماً؛ أو أسترد نفقات الأمل على الأقل».

أخطر ما يُقلق الذين يخطفون واقع الناس، خطباء يتلقّون أجرتهم باليورو وتوابعه إلى خبراء يُمعنون في تضبيب الواقع وتجهيله مروراً بخبراء الفشل. نعم خبراء الفشل الذين يتم استيرادهم لتثبيت منظومة احتياط في حال بروز قلاقل هنا وهناك ليكونوا هم البديل لتعميق حال المأزق والفشل في الأوضاع عموماً، وليس انتهاء بالذين لا يسرّهم البتة أن يروا لمُعة وتفرّداً في محيط يراد له أن يكون نموذجياً في التبعية والغباء والتسليم.

لا يُراد للوعي أن يحضر ولو مصادفة. المصادفة هي الأخرى إذا ما جاءت في توقيت مختطف تسهم في التآمر على الذين لا يسرّهم أي أثر لحضور الوعي.

يُراد للغياب أن يكون ضيف الشرف في هذه المهزلة. لا أدري كيف يكون غياباً وضيف شرف في الوقت نفسه؛ لكن لا شيء أساساً في البسيط من حولنا يمكن أن نقف على تفسير منطقي له ؛ سواء في الحق من حضوره أو الباطل من ذلك الحضور، وأحياناً تسخير ترسانات الأولين والآخرين كي يمعن ويذهب في غيابه من دون أي أثر لتلويحة حضور.

يُراد للغياب أن يكون سيداً لمن يُراد لهم أن يكونوا عبيداً في نظر حالمين أو متوهمين أو يعانون من فرط كوابيس تطاردهم في الصحو أكثر من النوم. كوابيس سببها الذين لا يعرفون للخضوع طريق ابتزاز وضغط وسحل وتهديد ومصادرة وممارسة أمراض وعُقَد.

الشعوب الملتزمة بصحوة حضورها لا تحب المصادفات ولا تحب الابتزاز ولا تحب التلويح بأي من الاثنين: العصا والجزرة. لا العصيّ التي هش أحد الأنبياء بها على غنمه يمكن أن تكون أداة للهش في محيط بشري ولا الجزرة يمكن لها أن تختصر مشكلات الذين يعرفون تماماً أن الأزمة والمأزق في الاستهانة بكرامة الإنسان وعقله ووعيه وليس معدته.

لا حب في الغياب الذي يكرّس القطيعة والانفصال. كما أنه لا وعي في اختيار الغياب والتماهي معه وقبوله خريطة خيار وحياة.

وعي يتم سلْقه في أستوديوهات إعلام ليس من مصلحته أن ينتبه وينبغ أحد لا علاقة له بالوعي لا من قريب ولا ممن بعيد. غياب يصطنعه إعلام أيضاً ضد من يصنعون الحضور ويثبّتونه لا يمكن أن يُؤتي أكله وثمره. سيخيب بخسران وخريف لا مجال لصدّه ودفعه والحيلولة دون حضوره.

استشهد بالمختلف جداً في الكلام الذي لا يشبه الكلام: محمود درويش في نصه الرائع: «لاعب النرْد»: «خلف الكواليس يختلف الأمر، ليس السؤال متى؟ بل لماذا؟ وكيف؟ ومنْ؟».

في الحضور لا تحتاج إلى متى ولماذا وكيف ومن. في الغياب يبرز «متى» الحضور ولماذا الغياب وكيف صار ومن غاب وعمّن؟

في الحضور بمعناه الممتلئ والمكتنز ذلك السد المنيع في مواجهة أعداء القيمة والمعنى. وفي الغياب المُخطَط والمُهندَس له.

في البسيط من المعنى، الغياب ألاّ يشعر بك أحد في البسيط من الحضور ولو كنت بحجم فيل. الحضور أن تكون هنا وهناك وهنالك. أن يمتلئ بك الزمن وتستوعب المكان وما بعده لا أن يستوعبك. أنت أكبر طاقة وحيزاً وقيمة منه. منك يستمد كل ذلك.

أمم تعاني من تخمة البطالة والفرجة والاستهلاك لا يمكن أن تكون عضواً في نادي الحضور. أمم تسهر حد الانتحار سعياً إلى ما يقودها إلى جعل الحياة أكثر يُسراً وسهولة هي من تؤسس كل تجمّع لحضور له القدرة على قيادة وعي المحيط والانطلاق إلى المساهمة في قيادة الوعي خارجه.

لا يمكن لأي حضور مبرمج ومستلب أن يدعي امتلاكه واستقلاله في الوعي. لا وعي في الأمر أساساً. إنه الرهْن وما يمكن أن يتفرع عنه مهما حاولت أطراف الرهن ذاك أن تخرج على الناس بما يبيّض وجه الأطراف جميعها؛ لكن ليلاً بالمرصاد وشاهداً يقول خلاف ذلك.

الإدراك اليوم لا يمكن شراؤه أو تعلّمه. تماماً كما أنه لا يمكن لأحد في العام 2013 ادّعاء أنه صاحب إحدى المعلقات السبع!

إدراك ما حول أي منا شرطه أن يكون مؤهلاً للحضور في معناه العميق. لا إدراك من دون حضور. الغياب في عالمه. وإدراكه في حدود عالمه لا في حدود عالم الحضور.

هنالك اليوم من يُجبَر على الحضور كي يتأكد ويتعمّق غيابه. وهناك من يُجبَر على الغياب ليتكرّس ويتعمق حضوره، وبين الاثنين أيضاً، هنالك من لا معنى لحضوره كأنه لم يكن في أثر ذلك الحضور؛ بل هو كذلك، وهنالك من يتعمّق غيابه أكثر بفعل اختياره ذاك مع سبق الإصرار والترصد.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3796 - الأحد 27 يناير 2013م الموافق 15 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً