مجدداً يتحول الإرهاب إلى الأعلى من قائمة الأحداث، بعد التدخل العسكري الفرنسي في أحداث مالي، وقيام تنظيمات إسلامية متطرفة بخطف عدد من الرهائن بالجزائر، وقيام السلطة الجزائرية بمحاولة إنقاذهم، وانتهاء الأمر بمصرع عدد كبير من الرهائن وخاطفيهم.
الجديد في الأمر، على الصعيد الدولي، هو ليس تصاعد وتيرة النشاطات الإرهابية، بل الموقف الدولي منها، الموقف الخاضع لازدواجية المعايير، والكيل بمكاييل مختلفة، من القضايا الساخنة، التي تنشط فيها قوى الإرهاب.
الحرب على الإرهاب، طرحت من قِبل الإدارة الأميركية بوتائر مختلفة، بعد حرب الخليج العام 1990، لكن الحرب المعلنة الكبرى بدأت بعد الهجمات الانتحارية التي اتهم تنظيم القاعدة بشنها، على مركز التجارة الدولي بنيويورك ومقر البنتاغون بالعاصمة واشنطن، في 11 سبتمبر 2001.
لقد اعتبرت الإدارة الأميركية، احتلال أفغانستان والعراق، فاتحة لحرب دولية ضارية على الإرهاب. احتلت أفغانستان، وأسقطت سلطة حركة طالبان، الحليف الرئيس للقاعدة. جرت ملاحقة تنظيم القاعدة. جرى لاحقاً احتلال العراق، تحت ذريعتي امتلاك أسلحة دمار شامل وعلاقة مفترضة مع تنظيم القاعدة. كما جرى تدمير قواعد هذا التنظيم بباكستان، نتج عنه سقوط آلاف القتلى والجرحى من المدنيين. ودخلت في هذه الحرب طائرات من دون طيار، بكثافة لم تكن معهودة بالحروب السابقة. كان من نتائجها تشظي وتخريب البنية التحتية في باكستان، ومضاعفة معاناة الشعب، ومفاقمة أزماته الاقتصادية، وتفتيته إلى أعراق وقبائل متناحرة.
تواصلت الحرب على الارهاب، وكثفت تقنية الهجوم بالطائرات من دون طيارين، من قبل الجيش الأميركي، لتشمل بلداناً كثيرة، في مقدمتها اليمن السعيد، الذي كان له نصيب وافر من تلك الهجمات.
إلى هنا، يبدو الأمر مفهوماً، وإن لم يكن مقبولاً. فالأميركيون في أحداث سبتمبر، ضُربوا في عقر دارهم، ومكمن قوتهم، وجُرحوا في كبريائهم، كأكبر قوة عسكرية واقتصادية تنفرد بالتربع على عرش الهيمنة الدولية. وكان لهم ما أرادوا. لكن الإرهاب واصل ضرباته، في كل أركان الكرة الأرضية، من شرق آسيا في إندونيسيا، إلى لندن وباريس، في أوروبا الغربية، مروراً بمعظم بلدان آسيا وإفريقيا. وكانت حصة الأسد، في العمليات الإرهابية، من نصيب الوطن العربي، حيث وصل عدد السيارات المفخخة بالمتفجرات في العراق، في مرحلة ما، بعد فترة وجيزة من الاحتلال الأميركي لأرض السواد، إلى عشرات السيارات في اليوم الواحد.
نقول إلى هنا، يبدو الأمر مفهوماً، رغم وحشية وضراوة تلك الحرب، والدماء الغزيرة التي سالت من الأبرياء والمدنيين، الذين سقطوا بفعل الضربات الأميركية الماحقة في هذه الحرب، وبفعل عمليات القاعدة الإرهابية في كل الزوايا والمناطق التي شملتها. لكن ما لم يكن مفهوماً البتة، هو المواقف المتناقضة للغرب، من ذات القوى. ما لم يكن مفهوماً البتة، هو محاربتها في مواقع، وتحريضها على التخريب وممارسة الإرهاب، بل ومدها بمختلف أنواع المساعدات، في مناطق أخرى.
وليس من شك، في أن ما عرف بـ «الربيع العربي»، قد كشف عن سوءات السياسات الغربية، ومن ضمنها الموقف الأميركي، من موضوع الإرهاب، وعرى تناقضه ومواقفه المكيافيلية. فقد كان الهدف المعلن للربيع العربي، في البلدان التي تفجرت فيها الحركات الاحتجاجية، هو القضاء على الفساد والبطالة والاستبداد، وإقامة الدولة المدنية، المستندة إلى الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. بهذه الشعارات، انطلقت انتفاضة البوعزيزي في تونس، و25 يناير في مصر. لكن تلك الشعارات بقيت أثراً بعد عين. اختفى بريقها، وحلت محلها شعارات التطرف الديني. وبدلاً من الأعلام الوطنية، رفعت أعلام ما قبل الاستقلال، إلى جانب الأعلام السوداء التابعة لتنظيم القاعدة، في الميادين التي شهدت، في الأيام الأولى «للثورات» تجمع الحركات الشبابية المطالبة بالديمقراطية والحرية والدولة المدنية.
في ليبيا وسورية، مثلان صارخان، من نوع آخر، حيث السلاح هو الملجأ الذي لا مفر منه، حتى وإن كان بيد تنظيم القاعدة والحركات الأخرى المؤازرة لها، لمواجهة الطغيان والاستبداد، معززاً بهجمات الناتو في ليبيا، وبدعم لوجستي في سورية للمتطرفين الإسلاميين من تنظيم النصرة، مع غياب واضح لاتجاهات البوصلة. وطبيعي ألا أحد يتصور أن تكون البديل نتيجة سقوط أنظمة الاستبداد، على يد قوى إرهابية وإسلامية متطرفة، هو قيام الدولة المدنية، وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني والفصل بين السلطات.
النتيجة الواضحة والمرئية، حتى الآن مما جرى، هي أن الوطن العربي يغرق الآن في فوضى عارمة، وأن أمرين قد تحققا في عدد من الأقطار العربية، التي بليت بهيمنة الإسلام السياسي، هي تفتيت هذه الأقطار، في متتاليات لا يبدو أن لها نهاية، وتدمير جيوشها الوطنية، وحرف بعضها الآخر عن مهمتها الأساسية، في حماية البلاد، والتصدي للأخطار الخارجية المحدقة به.
في مالي، تعود مجدداً، سياسة محاربة الإرهاب، بعد هدنةٍ مؤكدةٍ معه، في عدد من البلدان العربية، بعد الربيع العربي. يقوم الجيش الفرنسي، بالتدخل في مالي لنصرة الحكومة الحالية. وبغض النظر عن وجاهة أسباب التدخل، من عدمها، فنحن هنا أمام سؤال: هل سيعي العالم أجمع حجم الكارثة التي نمر بها، بسبب الكذب والنفاق السياسي الذي تمارسه القوى العظمى، وتغليبها لمنطق المنفعة على ما عداه، أم أن علينا الاستمرار في مواجهة الطوفان.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3793 - الخميس 24 يناير 2013م الموافق 12 ربيع الاول 1434هـ