تمثل الهوية الفلسطينية واحدةً من أكثر الهويات المثيرة للمشاعر والتفاعلات، وذلك لأنها نمت عبر الضدية المباشرة مع المشروع الصهيوني واختبرت على مر العقود الاقتلاع وفقدان الأرض والاحتلال والشتات. لقد تعايشت الهوية الفلسطينية مع خطوط التماس وولدت من فوهة التحديات المصيرية من دون أن تعرف ما الذي ينتظرها في اليوم التالي، فالأرض من حولها اهتزت كما لم تهتز في مكان آخر، بينما أحاطت بها السجون، وكبّلتها حياة المخيمات وحصار الأسلاك الشائكة والجدران العالية.
ومنذ العام 1948 عند قيام «إسرائيل» ومنع عودة الفلسطينيين، سكنتهم حالة العودة إلى فلسطين والتي سارت بموازاة مع روح المساهمة والبناء في مساحات العالم العربي والعالم المختلفة. فلقد توزّعت الهوية الفلسطينية على كل الأمكنة لتكتشف لنفسها طريقاً، في أماكن عرفت الاحتواء والصداقة والعمران، وفي مناطق واجهت التهميش واختبرت الاضطهاد. على مر العقود تفاعلت الهوية مع الرياح التي هبّت على العرب بدءًا من الناصرية والقومية العربية والإسلام السياسي وصولاً إلى التغيرات العربية الراهنة وآفاقها.
ولقد مرت الهوية الفلسطينية، ككل هويةٍ مضطَهَدةٍ، بمراحل ضمور وتجدد، وبمراحل استعداد وتأمل. إنها هويةٌ عرفتها كل الجبهات والميادين وسط تعرضها اللامتناهي للقساوة والفتك، فبعد كل تراجع تعيد المحاولة وكأن شيئاً لم يقع. وتمر الهوية الفلسطينية الآن بواحدةٍ من هذه المنعطفات، وذلك بسبب تكثف الصراع على الأرض واليقظة العربية الربيعية الجديدة، وبسبب تكاثر الأسئلة الوجودية والخوف على مستقبلها.
في كل هذا تحمل الهوية الفلسطينية حملاً ثقيلاً، يفرض عليها إعادة تعريف مكانتها وتحدياتها عند كل منعطف. والملاحظ أن الهوية الفلسطينية تتناثر وتضعف عندما تبتعد عن جذورها التي كوّنتها وذكرى القرى والمدن المدمرة التي حدّدت شكل وجودها. فقوة الهوية الفلسطينية ارتبطت دائماً بمدى مقدرتها على التحصن في حصنها الأخلاقي وروايتها التاريخية الأولى وذلك بهدف إعادة اكتشاف المنابع التي حدّدت مأساتها واقتلاعها من الوطن الذي كوّن بداياتها.
وبينما يبدأ تاريخ الهوية الفلسطينية منذ أزمانٍ طويلةٍ في ظل دول إسلامية متعاقبة وتاريخ سابق لكل التواريخ، إلا أن العام 1948 مثّل بداية مختلفة وولادة انبثقت من خطوط النار. ما كان قائماً في فلسطين قبل النكبة احتوى على شعب ينتمي إلى حضارةٍ تسعى لدولة مستقلة أسوةً ببقية العرب في زمن سيطرة الاستعمار، وما وقع في النكبة العام 1948 اقتلع الحلم وهجّر الشعب الذي أراده. هنا بدأ الحدث الذي هزّ عوالم العرب ولم يعرف الشرق مثيلاً له.
لقد عزّز هذا البعد السياسي - الانساني للهوية الفلسطينية من مقدرتها على استيعاب كل من يتداخل معها. كان محجوب عمر المناضل المصري في صفوف المقاومة وألوف العرب الذين ناضلوا واستشهدوا من أجل فلسطين نماذج لهذا التداخل الذي صنع الهوية الفلسطينية بصفتها هويةً كفاحيةً وهويةً إنسانية. فالهوية الفلسطينية بالأساس ليست عرقيةً وطنيةً مغلقة، بل تشكّلت بامتيازٍ عبر ميزانٍ لعدالةٍ مفقودة. هذا البعد الأخلاقي - الحقوقي للهوية الفلسطينية سمح بالانتماء إليها والسباحة في ربوعها من قبل مواطنين من مجتمعات شتى.
هوية فلسطين حاضنةٌ لحالةٍ نجدها مختزلةً في قصص عن منزلٍ مصادَر ومفتاحٍ للذكرى وشجر صبّارٍ ينبت مكان قرى مدمّرة وزيتون وبساتين برتقال منهوبة وقرى محروقة ومدن مفرغة وعائلات مشتتة ومخيمات متلاصقة. إن هذه الهوية الملاحقة في الميادين والجبهات لم تصل لما يريحها ويريح موتاها ويرفع الظلم عنها، وعلى الأغلب ستبقى تبحث وتبحث عن طرق الوصول إلى مستقبلٍ عادلٍ لا يحدّه مكان أو وقت. لهذا ستحتاج في طريقها القادم إلى وسائل مبتكرة وطرق تفكير مبدعة.
فمن الطبيعي أن نتساءل أين تقف الهوية الفلسطينية من تحديات بنيان معاصر ومجتمع نام وعادل وإنساني. فجزء من تعبيرات الهوية الفلسطينية قائم من خلال علم وطني وتحرير بعض الأرض كما في غزة وبعض مناطق السلطة الفلسطينية. لكن هذا لا يكفي ولن يكفي، وقد يتحول إلى كابوس مقلق.
فالدولة من دون مقومات وفي ظل التهويد والاستيطان والاقتلاع ستتحوّل إلى عبء على الهوية الحاضنة لها. هذه هوية عابرة للدول والأماكن، فهي في كل مكان في العالم لكنها مازالت بكثافة على أرضها التاريخية: إنها في يافا والناصرة وعكا كما في رام الله والخليل ونابلس وبلعين، وهذا يمثل أساس قوتها.
وكيف تتطور هوية بلا فتح متنفس واضح للخلافات بين مكوناتها. هذا يفرض تقبل الرأي المعارض قبل تقبل أي رأي، واعتبار التنوع وتعايش الآراء مدخلاً للإغناء. أليست قيمة الأرض من قيمة الإنسان، وتحرير الأرض متداخلاً مع تحرير الإنسان وفكّ قيوده وتطوير قدراته؟ كيف يكون تحرير الإنسان المؤدي لتحرير الأرض ممكناً بلا منهج ثابت لتأسيس الحقوق المدنية والإنسانية وتقديس الحريات والمساحة الإنسانية بما فيها الطريقة الديمقراطية في انتخاب القادة والممثلين؟ في هذا الزمن وفي هذه اللحظات التاريخية التي تشهد تحولات كبرى في العالم العربي، يجب إعادة قراءة التجربة الكفاحية المسلحة، كما يجب في الوقت نفسه استلهام تجارب جنوب افريقيا والهند والحقوق المدنية في مجتمعات شتى.
لكل هذا أثر حاسم على نمو الهوية وتطورها. ستؤدي أنماط جديدة للمقاومة المدنية إلى مرحلة جديدة من الكفاح. فالمقاطعة وإحياء الذاكرة، والمقاومة بواسطة الفن والمسرح والسينما والإعلام والأغنية والتعبير والكتابة والتعليم والثقافة والمسيرات المنظمة والإعمار وبناء المؤسسات ودعم الإبداع وزرع الأشجار وتحدّي الموانع والحواجز وحماية الحريات والتنوع، قد تكون الشكل الأهم للمقاومة في المراحل المقبلة.
في لحظة تحوّل، بإمكان هذه المقاومة أن تعزّز الهوية وتقوّيها وتبرز نقاط قوتها، فتهزم أعداءها في فكرهم وأخلاقهم وسلوكهم ومرحلتهم التاريخية قبل أن تهزمهم في ساحة الوغى.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 3786 - الخميس 17 يناير 2013م الموافق 05 ربيع الاول 1434هـ