من الأيام التاريخية القريبة التي لم أشهدها، وأسفت كثيراً على سقوطها من ذاكرتي، يوم هروب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي.
يومها كنت مسافراً من بيروت إلى دمشق براً، ولم أستقر في الفندق إلا عصر اليوم التالي، حيث دُهشت بخبر الهروب الكبير.
وما كان مني إلا أن خرجت إلى أقرب كشك أبحث عن صحف لأقرأ التفاصيل. واخترت «الأخبار» اللبنانية و»الشرق الأوسط» اللندنية، فالصحف السورية في عالمٍ آخر، وسهرت على قرائتهما حتى منتصف الليل. ولم أكن أدرك حينها أن العالم العربي على موعدٍ قريبٍ مع زلزال يسقط حكاماً آخرين ذلك العام.
كان سقوط الحكام في الشرق حدثاً نادراً، حاكمٌ واحدٌ كلّ عشرين عاماً.
وكان آخر سقوطٍ حين أُخرج صدام حسين من حجرةٍ صغيرةٍ تحت الأرض هرب إليها لسبعة أشهر، ومنها اقتيد إلى محاكمة طالت ثلاث سنوات حتى انتهى إلى المشنقة.
قبله بعشرين عاماً كان سقوط أنور السادات في عملية عسكرية لخلية عسكرية إسلامية، تمكّنت من تهريب الأسلحة والذخيرة إلى موقع الاحتفال السنوي بحرب أكتوبر، والوصول إلى المنصة حيث قضى مع مجموعةٍ من أعوانه وضيوفه بالرصاص، فيما نجا نائبه حسني مبارك بأعجوبةٍ يومذاك، ليخلفه في الرئاسة ثلاثين عاماً، حتى أطاحت به ثورة المصريين بعد شهر من هروب بن علي.
سبق مقتل السادات، هروب شاه إيران من ثورة شعبه، في مثل هذا اليوم (16 يناير 1979)، حيث ظلّ يتنقل مشرداً من بلدٍ إلى بلدٍ، وتخلّت عنه حليفته الكبرى (أميركا)، فانتهى لاجئاً إلى بناما فالمغرب، ومنها حطّ الرحال ضيفاً على صديقه السادات الذي كان معجباً به كثيراً. ولم يطل المقام بالشاهنشاه، حيث أصيب بالسرطان في أحد مستشفيات القاهرة.
كانت مثل هذه الأحداث نادرةً في الشرق الأوسط، لذلك تلصق تفاصيلها بالذاكرة، من هنا كان محزناً أن يفوتك حدثٌ تاريخي مثل هروب الطاغية بن علي، خصوصاً لما تلاه من تداعيات.
هذا الدكتاتور الذي سيطر على المشهد السياسي في تونس، وكرّس الإعلام لتمجيده والإشادة الدائمة بمناقبه التي لا تعد، سيذكره التاريخ بعبارةٍ واحدةٍ فقط تختزن الكثير من الغباء: «الآن فهمتكم»، تماماً كما يذكر ماري انطوانيت بعبارتها الشهيرة: «فليأكلوا الجاتوه». فالحكم الفردي الذي يصنع لنفسه هالةً من العظمة والأمجاد، يتكشف عند المنعطفات الحادة، عن هزالٍ في الفكر وانحطاط. فهذه العبارةُ ذهبت بكلّ خطب الرئيس والبرامج التلفزيونية التي أنتجت لتمجيده، وعصفت بآلاف الافتتاحيات والمقالات التي كتبها الصحافيون المتملقون خلال ربع قرن.
حين دخل التوانسة قصور بن علي، اكتشفوا بعض ما كان يكتنزه مع زوجته من حلي ومجوهرات ودولارات، وقبل أسبوعين عرضت الحكومة الجديدة نماذج مما سرقاه من أموال الشعب، في مزاد علني لتسترجع الأموال إلى خزينة الدولة.
وكان من بينها عشرات السيارات الفخمة، وكميات من المجوهرات والأحذية والبدلات وفساتين السهرة وحتى بيجامات النوم!
في التاريخ القديم... أن إماماً كبيراً دخل على خليفة عباسي وهو يغط في سكره، فطلب منه أن ينشده شعراً فاعتذر، فلما ألحّ عليه أنشده قائلاً:
سل الخليفة إذ وافت منيته
أين الأسِرّةُ والتيجانُ والقللُ
وطالما كنزوا الأموال وادخروا
فخلّفوها على الأعداء وانتقلوا.
وصدق الإمام الهادي... فحسني مبارك في السجن وأعداؤه على كرسيِّه، وبن علي مشرّد وأعداؤه في القصر.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 3784 - الثلثاء 15 يناير 2013م الموافق 03 ربيع الاول 1434هـ
أحرار
أحرار يا سيد أحرار. والحر تكفيه الاشارة. ليت الآخرين يكتبون عشر ما تكتبون وتتنفسون من هواء الحرية.
خاتمة موفقة
كلام نافع و مؤثر ، لكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع.
(الآن فهمتكم) عبارة ديغول
مقال جميل ورائع يا سيد ولكن من يتعظ ولكن عندما يرون حبل المنية تحوط بأعناقهم عند ذلك تستيقظ ضمائرهم فقط وأما بشأن عبارة زين العابدين فالعيارة الأصلية لديغول " لقد فهمتكم )قالها للجزائريين وبعدها كان ن الاستقلال للجزائر ، فعبارة زين العابدين مستعارة ووظفها لتشابه الظروف والأحداث ولكن الفرق ديغول المستعمر قالها للوطنيين الجزائريين المطالبين بتحرير بلادهم في حين زين العابدين قالها لمواطنيه وشتان بينهما
تونس
لا أستطيع أن أظفر بشرف أول معلق على مقالاتك لكثرة روادك أيها "القطب" الصحفي
ولكني حين أقرؤك كاتبا عن تونس لاأشعر بالفخر ببلدي فقط بل أشعر أكثر فأكثر أنك ابن بلدي تحس بتونس وأهلها كما لم يحس بها احد
بارك الله في قلمك المعتدل وبارك في فكرك المستنير
اضف عليهم
اضف عليهم مقولة مبارك خليهم يتفسحوا. ومقولة امير الشباب على راسهم طوفه. ومقولة غيره وغيره