العدد 3783 - الإثنين 14 يناير 2013م الموافق 02 ربيع الاول 1434هـ

سنتان بعد ثورة 14 يناير 2011... المدّ السلفي والإعلام (2/2)

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

بعد عامين من الثورة، لا تزال تونس تبحث عن توازنها الداخلي، وقد لفت انتباهنا في هذا الخضمّ بروز أمرين كنا قد تناولنا أحدهما في مقال سابق، وأعني الظاهرة السلفية، وأمّا الأمر الثاني، كما تراءى لي بعد 14 يناير/كانون الثاني 2011، فهو الصحوة الجارفة في مجال الإعلام.

نعم، لقد كان الإعلام قبل الثورة يعاني التضييق والمساءلة إلى حد المحاكمة، ممّا حدا بالكثير من الإعلاميين إلى الهجرة أو المهادنة

والمقايضة: مقايضة الكلمة الصادقة بالمنصب والجاه والمال. لكن بعد ثورة الكرامة، التقط العديد من الإعلاميين بقايا كرامة كانوا يحتفظون بها، ودخلوا في موجة تلو الموجة باستثناءات قليلة.

أمّا الموجة الأولى التي انخرط فيها كل الإعلاميين فهي مساندة الثورة، واستخدام خطابها ومفرداتها واحتضان جرحاها وتمجيد شهدائها ومنجزاتها...

في حين كان أغلبهم إلى ساعات قليلة قبل ثورة 14 يناير 2011 يسبحون بحمد المخلوع ويطبلون ويزمرون.

ثم كانت الموجة الثانية بعد أشهر قليلة من الثورة، حيث كان الانفتاح على القوى السياسية كلها دون إقصاء أو تهميش أو فرز أو تصفية حسابات، وحاولت كل وسائل الإعلام أن تقف على نفس المسافة من جميع الفرقاء السياسيين.

وبدأت في الأثناء تبرز منابر إعلامية ورقية جديدة اشتد أوجها في صائفة 2011، حيث عادت صحيفة حركة النهضة «الفجر» إلى البروز لتستقطب عدداً كبيراً من القراء المتعطشين إليها. كما برزت صحف عديدة أخرى بين جادة وهازلة، لكن اللون السياسي فيها استولى على معظم صفحاتها. وبعد نصف قرن من التهميش لفائدة صفحات الطبخ والرياضة والمرح وصور الفنانين وعارضات الأزياء... تعود إلى واجهة الصحف اليومية وشاشات التلفزيون صور الساسة والحوارات العميقة الجادة، وتأخذ هذه الوسائل الإعلامية في لعب دور فعال في التوعية والتنوير والتعريف بالمشاريع السياسية التي تقدم عليها تونس الجديدة استعداداً لانتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011. كما شرعت بعض القوى الوطنية ورجال الأعمال والمستثمرين في التفكير في بعث قنوات تلفزية جديدة، لكن الأمر كان يحتاج وقتاً وجهداً ومالاً استدعى تأخر بث هذه القنوات إلى ما بعد الانتخابات.

أمّا الموجة الثالثة، فكانت بعد الانتخابات حيث تصدّت عموم وسائل الإعلام إلى أداء الحكومة بالنقد والبحث عن الثغرات، وبدا واضحاً للعيان أن معركة الإعلام في تونس قد مالت كفتها للمعارضة، وحتى محاولات الحكومة في تنصيب مدير عام جديد للتلفزيون الوطني لاقت اعتراضات واعتصامات واحتجاجات لم يشهد لها قطاع الإعلام مثيلاً من ذي قبل.

وقد لاحظ أنصار حركة النهضة هذا الانحياز، فالتفوا حول الحكومة بحركة احتجاجية وصلت إلى حد الاعتصام أمام مبنى التلفزيون مطالبين بالعدل والمساواة في التغطية الإعلامية. ولا تزال بعض رموز الحكومة إلى اليوم تلقي باللائمة على بعض وسائل الإعلام في تشويه صورة تونس من خلال ما تبثه من مغالطات باسم حرية الإعلام على حدّ زعمهم.

وقد لاحظ الكثيرون أن غياب التغطية الإعلامية لمنجزات الحكومة، مهما كانت قليلةً، قد تساهم في تأجيج الأوضاع، فضلاً عن التضخيم الإعلامي الكبير الذي يحصل في حال وقوع الحكومة في الأخطاء.

أما الموجة الأخيرة والخطيرة للإعلام الذي صار إلى قدر كبير موجّهاً توجيهاً إيديولوجياً سياسياً، فقد برز للعيان في طريقته غير المهنية في التعامل مع الأحداث. وعلى سبيل المثال تعاطي الإعلام الإيجابي في تغطية حادثة إنزال العلم من مبنى الجامعة بما هو رمز للسيادة الوطنية من قبل جهات محسوبة على التيار السلفي أو في حادثة الإخلال باجتماع لحزب سياسي معارض في جزيرة جربة بقيادة السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة الانتقالية السابقة من قبل جهات محسوبة على حركة النهضة، وقد تعاطف الإعلام بشكل كبير مع هذا الاعتداءات ضد مرتكبيها وخصصت الصفحات والمنابر التلفزيونية لشجب وتحميل الحكومة وزر هذه الخطايا. في حين ما وقع يوم 17ديسمبر/كانون الأول 2012 في مدينة سيدي بوزيد، مهد الثورة التونسية، من إهانة لرئيس الدولة ورئيس المجلس التأسيسي لم يحض بالتغطية الإعلامية المناسبة بما هما رمزان للسيادة الوطنية.

ورغم ذلك فإن أهمّ مكسب للثورة التونسية، بعد عامين، هو تحرّر الإعلام مهما حاد أو انحاز، لأنه آمن فعلاً أنّه سلطة رابعة لا تقبع بالضرورة إلى يمين الحكومة، وإنما يبقى على يسارها سواء بدوافع أخلاقية كالدفاع عن الحق ومناصرة قضايا المظلومين والمهمّشين وجرحى الثورة والمعطلين عن العمل أم بدوافع سياسوية ضيقة.

إن الإعلام في تونس يعيش مخاضاً صعباً شأنه شأن الديمقراطية؛ وهما في وضع انتقالي محفوف بالمخاطر والمحاذير، يسعى إلى ترسيخ ثوابت جديدة في التعامل مع الحياة السياسية، خصوصاً أن هذه الفرص التي منحتها إياه ثورة الكرامة قد لا تتكرر. لذلك يكاد يجمع التونسيون على أن تحرير الإعلام من سلطة الحكومات السابقة هو أهمّ مكسب للثورة، بل هو تلك اللحظة التاريخية التي هرم من أجلها جيلٌ وراء جيل من الإعلاميين، وتمنّوا مثل هذه اللحظة قبل أن يموتوا.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 3783 - الإثنين 14 يناير 2013م الموافق 02 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 11:38 م

      تلك اللحظة التاريخية

      تلك الكلمة السحرية ذات ثورة تلك التي أحب صدقها كل العرب تلك التي حفظها الرجال والنساء الكبار والصغار وارتاح لها الموتى في قبورهم
      تلك وتلك وتلك
      كونوا لها أوفياء يا أهل تونس
      لقد هرم من أجلها جيلٌ وراء جيل من الإعلاميين، وتمنّوا مثل هذه اللحظة قبل أن يموتوا.

    • زائر 6 | 4:26 م

      إنها لثورة حتى التوازن

      قديما قيل عن ثورة الفلسطينيين إنها لثورة حتى النصر
      واليوم يحق أن نقول عن ثورة تونس إنها لثورة حتى البناء والوازن

    • زائر 5 | 9:37 ص

      هي حقا مهنة صعبة

      إن الإعلام في تونس يعيش مخاضاً صعباً شأنه شأن الديمقراطية؛ وهما في وضع انتقالي محفوف بالمخاطر والمحاذير،

    • زائر 4 | 6:27 ص

      ولكم الفضل

      الثورة تصحح أوضاعها والشعب يكرس حريته. هذا ما نتمناه للأخوة الاشقاء في تونس الذين اسهلوا الربيع العربي بثورتهم المباركة ضد الطغيان.

    • زائر 3 | 6:06 ص

      ثورة بحق

      مهما كانت نتائجها فالثورة التونسية يكفيها فخرا أنها غيرت وجه التاريخ وأطاحت بأباطرة الحكم في النصف الثاني من القرن العشرين

    • زائر 2 | 3:58 ص

      ممثل كويتي

      يشبه حمد العماني

    • زائر 1 | 11:39 م

      فعلا هذا صحيح

      يجمع التونسيون على أن تحرير الإعلام من سلطة الحكومات السابقة هو أهمّ مكسب للثورة، بل هو تلك اللحظة التاريخية التي هرم من أجلها جيلٌ وراء جيل من الإعلاميين، وتمنّوا مثل هذه اللحظة قبل أن يموتوا.

اقرأ ايضاً