يعلم حتى البسيط في وعيه وإدراكه، أنَّ الآلة ليست بشراً وما تُحدثه من حيث قدرتها التدميرية والخسف يقف وراءها من هم من المفترض أن يكونوا بشراً؛ أو من المتطفّلين عنوة على البشر. الآلة فكْر ومخطط تدميرها من فكْر ومخطط الإنسان الذي أوجدها أولاً، ولقّمها خريطة الدمار الذي عليها أن تسلكها وتأخذها دليلاً، ثانياً.
ثمّة آلة تُسهم في سعادة البشر في مكان، وعلى النقيض من ذلك تُسهم في شقائهم في مكان آخر. الفارق بين الدورين والفعْلين، قيمة الإنسان وحقيقته في تعاطيه أو توجيهه لتلك الآلة.
وعلينا ألاّ ننسى أن بيننا من البشر بكل ما يضجّون به من صحّة وعافيه ووهْم معرفة من هم أكثر استعداداً لتلقي التعليمات والتقليم من الآلة نفسها.
أخطر الآلات حين ينسلخ الإنسان عن إنسانيته ودوره وخياره. أن يكون تابعاً ومُبرمجاً ومُنقاداً ومُنْشَدّاً. تلك وظيفة آلة ولا يمكن أن تكون وظيفة إنسان.
تسعى المعرفة اليوم إلى تحييد الآلة. يحدث ذلك في الدول التي أطلقت جزءاً من الغول في تلك الآلة. تحييدها بمزيد من الأدمغة الذكية. أن تقوم بدور سيدها في استجمامه، واعتماداً على أن استجمامه لن يصدر عنه إلا الرزين والممحّص من القرار.
ثم إن الآلة لا تفْقه فعل الاحتجاج على دورها الماحق. لا تفْقه أن الناس حين يخرجون مجرّدين من آلات حمايتهم المنظورة والمعتادة في سبيل الدفاع عن حقهم في الحياة بكرامة ومعنى، إنما يريدون أن يتصدّوا حتى الرمق الأخير لكل محاولة تحويل الإنسان إلى آلة؛ أو التعامل معه باعتباره قابلاً لأن يكون آلة تحت تصرف الذين يعانون من الفراغ، ويتعاملون مع إبادة الجنس البشري كما يتعاملون مع الألعاب الالكترونية.
ويوم أن كانت الآلة في بدايتها كان الإنسان هو مصدر الانتباه؛ على رغم أطوار مرَّت عليه في ظل أنظمة استبدادية كهنوتية من جهة، ومنفصلة عن ذلك من جهة أخرى؛ إلا إنه على رغم السطوة تلك كان هو المحرّك لدماء وحيوية ونشاط الزمن الذي كان في لبّه. لم تنل منه خبرات السحْل والمصادرة أي شيء. تآكلت الآلة وتفتّتت. ذهب الذين يتعهّدونها أكثر من أبنائهم إلى أكثر من مثوى مخزٍ وأحياناً إلى المجهول من المثوى.
الآلة بقدر ما سهّلتْ ويسّرتْ والتهمت المسافات كي يأخذ الإنسان حصّته من الاستقرار والرفاهية؛ إلا أنها ساهمت أيضاً فيما تبقى من فطرة تواصل الإنسان مع محيطه الكبير عبر هذا الكوكب.
ومثلما لا قلب في الآلة ولا حواس تجاه خروجها السافر على طمأنينة الناس وعفويتهم وحقهم في الهتاف بالحياة أو الموت؛ بحسب تحييد الآلة وإقصائها والتعامل معهم باعتبارهم أصلاً رئيساً من الوجود ولزمنهم قيمته واعتباره؛ بحسب اعتبارهم لوجود وأزمنة الآخرين.
ثم إنه من المأساة أن يصل الأمر إلى أن تتحكّم فيك وتحكمك الآلة. الآلة نفسها التي ألقمْتَها طرف ذكائك لأنها لن تستطيع ولم تخلق كي تكون في صراع ومناكفة معك. أنت من تلقمها حظها ممّا يرفّه وييسّر الحياة من حولك، وأنت من يلقمها الخسف والعصف وإحالة كل جنة إلى جحيم.
محاولات تحويل الناس إلى آلات تابعة وتستقبل توجيهها وأوامرها من أطراف أخرى مازال قائماً في عصر يتباهى بالإنسان كإنسان، لا كآلة تلقّم قدرها وما يجب أن تفعل أو لا تفعل. المحاولات مستميتة وتكاد لا تنقطع ولا شيء في الأفق يدل على أنها ستنقطع.
ثم ماذا يعني أن يتحوّل المحيط الذي من المفترض أن يحيا فيه الإنسان إلى هيمنة الآلة ومن يمسكون بها؟ ماذا يعني أن تنام إنساناً «افتراضياً» لتصحو آلة لا يمكن الجدل في واقعية حضورها وهيمنتها؟ وماذا يعني أن تحكم الآلة الإنسان وتكون في صدارة المشهد؛ فيما الإنسان في الظل وخلف الصورة وخارج الكادر؟
بذلك يُراد للآلة أن تكون عقلاً يفكّر بالنيابة عن إنسان هذا العالم. الآلة لا عقل فيها. ذلك يعني تحييده؛ بل في واقع الأمر تغييبه؛ بحيث تكون عواطفه ومداركه وأحاسيسه وحضوره وغيابه آلياً من الألِف إلى الياء.
حتى الرجل الآلي الذي كنا متحمسين له في عدد من الأفلام التي تقدّم الأميركي باعتباره السوبرمان والخارق للعادة، سواء ذلك الذي في البيئة المتحضّرة (سوبرمان، سبايدرمان، رجل بمليون دولار، المرأة الخارقة)، وفي البيئة المتخلفة (طرزان) لا يخلّف وراءه حدائق ومعامل وجامعات تضج بالحركة. يخلّف وراءه دخاناً وحريقاً ودماراً وقتلى ومشردين، وفي نهاية المطاف بطبيعة المجتمعات تلك، يخلّف منبوذين وشحاذين وسكّان أسافل الجسور والمجارير. تلك صنيعة الآلة والإنسان الآلي.
الآلة لا يمكن أن ترسم ابتسامة أو تقرر سعادة للإنسان إذا كان متعهّدها حاقداً وموتوراً وكل طموحه أن يرى الإنسان في ذروة شقائه وعنائه وبؤسه. المتعهّد الذي تبرأ من إنسانيته واقتنع أنها عار يلاحقه؛ ما يدفعه إلى الانتماء إلى النقيض منه. تلك أمور لا مجال للمبالغة والتخيّل فيها. التجارب على الأرض تقدّم أكثر من درس وعظة ونموذج فيه يستلب الإنسان ويهجّر ويشرّد ويلاحق.
القيامات الاصطناعية والمفتعلة التي يعاني منها العالم اليوم تقف وراءها عقول تبرّأت من إنسانيتها وانحازت من دون مواربة إلى «مكْنَنَة» العالم. أي إدخاله بكل مشاعره وقيمه تحت سلطة وهيمنة المكنة والآلة. كيف هو شكل العالم بتلك الهيمنة؟ كيف يكون عالماً أساساً حين يكون الإنسان في الهامش وهدفاً لترويج تلك الآلة. آلة محوه وسحقه ومحقه؟
الخطر لا ينقطع في حركة، لا شك في ذلك؛ لكن الخطر الداهم والمضاعف والمركّز هو في تعميق حال قيام الآلة بدور الهيمنة على الإنسان وتقرير شئونه ومصيره. والأخطر من ذلك كله، أن يتحوّل الإنسان إلى آلة.
أخيراً، الآلة ترسم مستقبل الخراب في هذا العالم. هل للخراب مستقبل؟ ذلك ما تحاول أن تقنعنا به الآلة والذين يقفون وراءها.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3782 - الأحد 13 يناير 2013م الموافق 01 ربيع الاول 1434هـ