قراءة التاريخ الإنساني بالعادة لا تتغير فصولها كثيراً لأنها تتكلم عن تجارب بشرية صالحة لكل زمان ومكان. هكذا هي روائع الأدب الإنساني مثل «البؤساء» التي كتبها في القرن التاسع العاشر الأديب الفرنسي فيكتور هوجو و «البعث» للأديب الروسي ليف تولستوي و «الأم» للروسي مكسيم غوركي، جميعها تكلمت بلغة الإنسان الحر، وما أجمل هذه اللغة التي توحد الجميع كما توحد الحراك والنضال الإنساني من أجل الكرامة والإنسان والخبز.
ولهذا فإن واقع هذه الروائع ليس بعيداً عما نشهده اليوم في ساحاتنا العربية، فهو لا يختلف كثيراً عما مرت به مراحل ثورات واحتجاجات الشعب الفرنسي الذي لم يبدأ بثورة واحدة ولكن بأكثر من واحدة حتى حقق الحرية التي أرادها صغيرها قبل كبيرها. ويخطئ من يقول ان تاريخ المراحل لا يتكرر، دون أن يعي أن حركة التاريخ مستمرة، لأن النشاط الإنساني مستمر نحو التحرر من قيود تسلب إرادته وتحوله إلى نكرة داخل مجتمعه.
إن الشعوب العربية التي خرجت إلى الشوارع والميادين لم تخرج إلا لأنها عازمة على الخروج وبكل إصرار، مهما كلفها الثمن، من حالة البؤس والإنكار التي تعيشها في مشهدها السياسي، هذا المشهد الذي يخرجها اما من عبودية نظام سياسي إلى آخر أو يبقي نظاماً يستعبد الآخرين عبر الإرهاب والتخويف.
هكذا هو حال المشهد السياسي في المنطقة العربية منذ مرور عامين على الربيع العربي، رغم أن هذا الربيع لا يشكل تهديداً على الدول الصديقة إلا انه بلاشك ومنذ حلوله أصبح «فزعة» على الدول والأنظمة السياسية في المنطقة العربية التي لا تؤمن بحرية وصوت الإنسان.
لقد خرج الشباب العربي في العام 2011 واثقاً بنفسه، بل ومعتمداً خطاباً يحترم حقوق الآخرين ولاسيما أن الأوضاع ساءت على مر السنوات لأنها لم تفسح المجال لوجهات النظر بالتفاعل بصورة ديمقراطية، ولعل ذلك يعكس موجات الشد والجذب بين هذه المجموعة عن تلك.
إن ما حدث في زمن الربيع العربي جاء من قبل طاقات شبابية أرادت كف النظم المستبدة عن الانتهاكات ومن أجل زيادة هامش الحريات الأساسية الذي يساهم في التطور والانفتاح، وهو أفضل وسيلة لتفادي التعصب وانعدام التسامح والانتقام.
ولو عقدنا مقارنة بين الربيع العربي و «البؤساء»، هذه الرائعة الأدبية والفيلم الغنائي (مازال يعرض في دور السينما في المنامة والقاهرة وبيروت وغيرها من العواصم العربية والأجنبية) التي تكلمت بحق عن كل أشكال البؤس التي عاشها كل عنصر في هذا الفيلم بدءًا من النظام السياسي وصولاً إلى أصغر طفل في الشارع، ليس هذا فحسب، بل يكفي غناء الشعب الغاضب والبائس على أوضاعه التي تمثلت في غناء الطلبة الثوار الذي يشبه نشيد الأبطال، لكنه يعطي دواء لكل صوت لا يُسمع، ولكل إنسان يُسحق لأنه يجب أن يبقى عبداً. فهذا ما رسم له نظامه السياسي والفئة المنتفعة من آلام الناس وجوعهم.
هكذا هي «البؤساء» من واقع التجربة الفرنسية وهكذا هو «الربيع العربي»، فعندما لا يسمع صوت الشعب يصبح شعباً مستعبداً ومنسياً، لكن «البؤساء» غنوا و «الربيع العربي» صرخ، كل بطريقته أمام الجيوش والمتاريس والمدافع والبنادق ومسيلات الدموع والرصاص.
غنوا وصرخوا لأن روح الشعب ودماء شهدائه هي من تحقق الحرية المسلوبة، وهي من تنتصر ولكن بعد نضال طويل... «هل تسمع الناس يغنون أغنية الشعب الغاضب، إنها أغنية الناس الذي يرفضون أن يصبحوا عبيداً مرة أخرى»... نعم والشعوب في كل زمان ومكان ترفض العبودية والاستبداد، وهذا هو مطلع حكاية ثورات واحتجاجات الربيع العربي... غناء الشعب الغاضب، صراخ الشعب الغاضب، ونضال يتكرر من فصول التاريخ ومن صفحات روائع الأدب العالمي. فألف رحمة على شهداء الربيع العربي، فقد قالوا ما كان يجب أن يُسمع مثلما عبر عنه فيلم «البؤساء» متمثلاً في وجهة نظر الجميع بمن فيهم الممثلون والمخرج البريطاني توم هوبر.
إقرأ أيضا لـ "ريم خليفة"العدد 3781 - السبت 12 يناير 2013م الموافق 29 صفر 1434هـ
مقال جميل
الفلم عميق ومقالكم القيم ذكرنا بالفلم في مشاهد متنوعة، فشكرا
مقال جدا رائع
ونحن نقولها في وجه ...هيهات منا الذلة