العدد 3779 - الخميس 10 يناير 2013م الموافق 27 صفر 1434هـ

لا ثورة مع العقل السياسي الطائفي

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

في كل يوم يمر على ثورات وحراكات الربيع العربي يتضح أكثر فأكثر أنه لا يكفي أن ترفع الثورات شعارات وأهداف المستقبل إذا لم يصاحب ذلك إزالة معوقات الماضي والحاضر، بل وتطهير الماضي والحاضر من شتى أنواع المدنسات.

نعم، كان لابد من إعطاء الأولوية القصوى لإقصاء شخوص الاستبداد الرسمي من على عروش الحكم، لكن ذلك غير كاف، إذ ان الثورات تحتاج الى أن تنتقل بسرعة إلى تعطيل آليات الإفساد السياسي الذي يسهل تواجد الاستبداد السياسي كشخوص وكمؤسسات وكعلاقات بين المجتمع وسلطة الدولة.

من أهمّ وأفتك آليات الإفساد السياسي آلية الطائفية السياسية. تواجد الطائفية السياسية إبان فترات الحكم الاستبدادي لا يزيد عن كونه احدى الأدوات، ضمن قائمة طويلة من الأدوات الأخرى، التي يستعملها المستبدون للهيمنة على المجتمعات والاستغلال واستباحة ثروات الشعوب وللبقاء في الحكم إلى أبد الآبدين. أما تواجد الطائفية السياسية إبّان فترات ما بعد الثورات، الرافعة لشعارات الديمقراطية والمساواة في المواطنة وحقوق الإنسان وغيرها من القيم السياسية الجامعة التي تسمو بالحياة الإنسانية، فإنها قادرةٌ على تدمير الثورة أو حرفها عن مبادئها ونكوصها نحو الوراء.

من هنا الأهمية القصوى للبدء في الحال لإيلاء أولوية متقدّمة لموضوع الطائفية السياسية التي تستغلّ أجواء التحسُّن النسبي لممارسة الحرية في الحياة السياسية العربية لتطرح نفسها بقوة وبأشكال خبيثة بألف قناع. إنها اليوم ماثلة بصور متعدّدة في تونس ومصر وليبيا والعراق وسورية ولبنان ودول الخليج العربي واليمن والأردن، وهي تنتظر الوقت المناسب لتظهر في الأقطار العربية الأخرى. باسمها يجري تدمير أقطار عربية وتهيّأ أقطار للتقسيم والتجزئة، وتحفر شروخ عميقة بين مكوّنات مجتمعية عاشت عبر القرون في سلام وتفاهم. وباسمها، وهي تقبع وراء قناع ديني يدّعي القداسة ويفتري على الله الكذب، تجري محاولات سرقة الثورات واستغلال الجهد الشبابي الثوري وتضحياته المبهرة، وذلك تمهيداً لبناء أنظمة حكم تدّعي الديمقراطية، والديمقراطية الإنسانية العادلة المتناغمة مع القسط والميزان الإلهي منها براء.

ومرّةً أخرى، كعادتنا في بلاد العرب، وباسم الخصوصية الثقافية، تجري محاولة بناء ديمقراطية مشوَّهة يتحكم فيها عقل سياسي طائفي دوغمائي منطلق من نعرات تاريخية بليدة، ومن مظالم لا دخل لشباب الثورات العربية بها، ومن مشاعر مكبوتة عبر القرون يراد لها أن تنفجر وتطفو على السَّطح الآن.

إن مثيري الفتن الطائفية السياسية في الشوارع وعلى المنابر الإعلامية ويغطونها بعباءة الدين، يعلمون جيداً أن الفتن الطائفية الإسلامية لم تكن أكثر من نزاعاتٍ سياسيةٍ مبنيةٍ على منطلقاتٍ قبلية؛ وأن الأطماع الدنيوية وأنظمة الحكم الاستبدادية الفاسدة أبقتها مشتعلة عبر القرون؛ وأن فترات الاستعمار قد استغلتها أبشع استغلال لصالح المستعمر؛ وأن الحلف الصهيوني – الغربي يزيد الآن حطب نارها في كل دقيقة. ومع ذلك، وعلى رغم الأحلام العظيمة للثورات المباركة، تستعمل تلك الفتن في إثارة أحداث وصراعات يومية تنهك المجتمعات العربية التي تريد أن تتعافى.

الثورات العربية إذاً يجب أن تلتفت لهذا الموضوع في الحال لتهميشه كموضوع حياتي يومي. وتهميشه لا يمكن أن يبدأ إلا من خلال إنعاش الهوية الوطنية الجامعة والانتماء القومي الجامع، كشعارات وممارسات يلمسها المواطن العربي يومياً في إعلام الثورات وقوانينها وعدالة توزيعها للثروات المادية والمعنوية، والإصرار على إقصاء كلّ من يخلط الدين بسموم الطائفية في الحياة السياسية العربية الجديدة. ولذلك، فأمام محاولة الفكر السياسي الطائفي جعل الناس يعيشون أجواء وأعياد وطقوس الحياة الطائفية، تحتاج الثورات الى البدء ببناء أجواء وأعياد وطقوس الحياة الثورية الجديدة في المدرسة والشارع، وعلى وسائل الإعلام الجماهيرية.

إن العقل السياسي الطائفي لا يرى له هدفاً غير إعادة التوازن بين المذاهب والطوائف، وتقسيم الثروات والسلطات فيما بين المنتمين لها. أما العقل السياسي الوطني والقومي غير القبلي والديني غير الطائفي، فإنه لا يؤمن بالمقاسمات الطائفية والمذهبية والقبلية، لأنّه يتخطاها إلى عوالم الحقوق الإنسانية والمسئوليات الأخلاقية والمساواة في المواطنة والعدالة في الحكم وكرامة الإنسان منذ نشأته حتى مماته. عند ذاك لن يحتاج الإنسان العربي إلى قبيلةٍ تحميه، أو شيخِ مذهبٍ يدافع عن حقوقه، أو راعٍ يمنُّ عليه بالمكرمات، أو هيئاتٍ ودولٍ أجنبيةٍ تتدخّل لإنصافه، أو مؤسسات وساحات دولية ليعرض عليها وفيها مظالمه.

مجتمعات ما بعد الثورات والحراكات العربية، تحتاج الى أن تطهّر نفسها بالسرعة القصوى، من دنس العقل السياسي الطائفي وممارساته وأكاذيبه. هذا موضوع من مواضيع السَّاعة لا يمكن تأجيله، إذ لن يتم بناء راسخ قبل حسم هذا المرض التاريخي الذي باسمه يُدمّر الحاضر ويُزوّر المستقبل.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 3779 - الخميس 10 يناير 2013م الموافق 27 صفر 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 2:12 م

      دكتور ارفع لك القبعة بشرط

      من الذي يستخدم الدين في الوصول الي السياسة ياليت دكتور تقولها صراحة من غير لف و دوران و ارفع لك القبعة و تعطينة امثلة عليها

    • زائر 3 | 2:59 ص

      احسنت دكتورنا

      بس عاد الي عندنا يفهمون؟

    • زائر 4 زائر 3 | 5:09 ص

      مصير؟

      انا مع حركة التغيير، للوضع السياسي الطائفي المرير، و لكن هل من حيلة لإرجاع بصر الضرير؟ إن السم الطائفي خطير و في كل يوم له شكل و أثر على المواطن الفقير، ففي وجهة نظري الوضع أشبه بالابرة التي قصمت ظهر البعير لشعوب ناضلت و لازالت تواصل المسير، و لكن هل من بصيص أمل حقيقي لتقرير المصير؟

    • زائر 2 | 1:02 ص

      طائفة الانتفاع السياسي

      لعلى ما يمكن رصده من احداث مشهد الربيع العربي بروز فئة موغلةالانانية والكسب الرخيص مختبئةخلف جدران سميكة الخبث للانتفاع من الحالةغير السوية التي تعيشها بلداننا العربيةوان منهجية هذه الفئة التي يمكن ان نسميها بفئة الانتفاع السياسي مختلف بين بلد واخر بيدانها متحدةفي النصب والاحتيال بوسائل مختلفة وتلك الفئة حاضرة في الاعلام وفي المواقع الاقتصاديةوالمنافذ ذات الاهمية التي تمكنها من تيسير سطوتها في الكسب الرخيص والثراء على حساب خبز البسطاء من ابناء امتنا تلك هي الحالة المأساوية الماثلة امامنا

اقرأ ايضاً