جلُّ ما حولنا عناوين. عناوين مُنتقاة بخبْث وتجيير. عناوين التنمية تخفي وراءها سرقات تُدخل التنمية في غيبوبة لا يعلم انتباهتها إلا الله. عناوين الإصلاح تُخفي وراءها مضامين الخراب والدمار. عناوين الشفافية تُخفي وراءها مضامين الطاولات وما تحتها، والجيوب التي بحجم دول في بعض الحالات. عناوين العدالة تُخفي وراءها ما بعد الغبْن والجور والمظالم بمراحل والأحكام الجاهزة قبل القبض على طرف الاتهام. عناوين المساواة تُخفي وراءها مشاريع التشْطير. عناوين كرامة المواطن تُخفي وراءها مضامين استضافته في السراديب التي مازال البعض مصرِّاً على أنها فروعٌ لسلسلة «شيراتون» و«ميريديان». عناوين الأولويات تُخفي وراءها أولوياتها الخاصة، والخاصة جداً، وتعميقاً لإهمال مصائر الناس قبل حاجاتهم اليومية والطبيعية. عناوين القضاء على البطالة تُخفي وراءها مؤشرات يشيب لها رأس الولْدان وتحقق هدف تطرّف من نوع آخر. هذا الجزء من العالم هو الأكثر قدرة على إقناع الناس بالانتساب لأندية التطرّف وتكفير محيطه والأمة، بفعْل السياسات والعناوين التي تُرفع ولا مضامين يمكن أن يلمسها أو يشعر بضجيجها أحد. عناوين الرفاهية تُخفي وراءها حرماناً لن تجده في الدول التي تعتمد في اقتصادها على الفحم الحجري ولا نقول النفط. النفط الذي صار نعمة للمتخمين ونقمة على الفقراء.
العناوين هي التي تحكم وتتحكّم في الفائض من الكذب في السياسات خصوصاً، وما ينتج عنها من كوارث. السياسات اليوم بكل بياناتها ونضالاتها الفارغة والمنعدمة لا تتجاوز العناوين والصراخ والاستعراضات أمام الكاميرات وفي المؤتمرات الصحافية.
أنهكتْنا العناوين في أوطان من فراغ المضامين وانعدام الإنجازات. لا نتحدّث عن الإنجازات التي يتم إعدادها للكاميرات القادمة من وراء الحدود لتؤرّخ للوهم والدجل والفراغ وسفاسف الأمور. ذلك لا يعنينا في شيء. لا يعني المواطن البسيط المهدّد بانقطاع الكهرباء لأنه لا يجد ما يُنفقه لإضاءة ملامح أطفاله كي يتعرّف عليهم من بؤسٍ وصُفْرة ملامح من سوء التغذية. لا يعني المواطن البسيط الذي أدمن العناء من المهد إلى اللحد. ليس عناء العلم والمعرفة، في طلب العلم «من المهد إلى اللحد»، وطلبه «ولو في الصين». العناوين وأثرها لم تُتح له الفرصة أساساً. أعني به عناء مطاردة الرغيف ما قبل أذان الفجر إلى أن يعود إلى قواعد إحباطه وقد كَهْربتْه الشمس وحرارة إضافية في طقس هذا الجزء من العالم تضاف إلى كهْرَبَة السياسات الصاعقة في صور خاصة، وخاصة جداً!
اختطفت العناوين حقنا في الحياة كما يجب. المضامين في غيابها وغيبوبتها. الإعلام الأعرج والأعور؛ بل الأعمى يُصوّر - وهماً - تلك المضامين على أنها جنة مصغّرة على الأرض. لا أحد يجرؤ على انتقاد الجنان التي لم نرَ ولم نسمع ولم تخطر على بال أي منا.
المضامين الصادقة والتي تنطلق من حرص ولا يديرها الفاسدون واللصوص والطارئون في علاقاتهم مع الناس، ينتج عنها تغيير وفارق وأثر كبير في الحياة التي نحن في صددها. العناوين لم يثبت قطُّ أنها أنجزت ذلك. لا يمكن للعناوين أن تنجز لمجرد رفعها بكل الكُلَف التي يجب أن تدفع ولو على حساب فاتورة دواء لمن يخجل من أن يرفع صوته بالأنين وطلب النجدة.
المضامين تظل في غرباتها الطويلة والمؤبّدة. يُراد لها أن تكون وُعوداً في الفراغ وفي رؤوس من أطلقوها. من تعنيهم لن يصلهم شيء. من أطلقها وُجد ليستحوذ على كل مضمون مادام هو أب وأم وجَدّ وجَدّة وخال وعمّ كل المضامين. هو الأصل ومن كان من المفترض به أن يكون عاملاً لديهم وقائماً ومتعهّداً راحتهم هم في آخر الهمّ والالتفات. هُمْ لا أحدَ ولا أثر يدل عليهم بالممارسة والواقع الماثل.
العناوين الفارغة هي التي خلقت الردّات في العالم، والردّات في التاريخ البشري؛ وخصوصاً حين تستهدف بفراغها متاهة الإنسان والقذف به في أكثر من مفازة من دون أي إشارة ودليل على أنه عبر إلى هذا الكوكب وكان أحد أرقامه على أقل تقدير.
يحضر الصديق الشاعر المشاكس المختلف الراحل الحاضر، أحمد راشد ثاني، ذات تسكّع في إمارة أبوظبي، كان ذلك في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، من دون مناسبة، ولم ينتظر مناسبة قط كي يُدهش من حوله: «في العناوين كثيراً ما تكمن اللعنة».
نعم في العناوين وتفاصيلها تكمن اللعنة؛ لأنها فارغة ومن دون تفاصيل أساساً بدليل ألاّ مضامين في الأمر. المضامين قدرها أن تكون مغيّبة؛ لأنها لن تسرّ ولن تبعث ارتياحاً لدى أحد، وبطبيعة العناوين الفارغة والجوفاء التي ترفع، وهي لا ترفع في واقع الأمر. إنها تذهب إلى الحدود القصوى من الانهيار والسقوط.
كل هذا الاضطراب والوهم من حولنا ضمن باقة طويلة عريضة موعود بها شعوب الغفلة، نتاج عناوين تُلقى وتُرمى هكذا كما يُلقي أحدهم ورق المحارم في جلسة سرية خاصة! في فحص ساذج لا يكلّف نفسه أمر التعمّق والتقصّي يمكن أن تستنتج وتقف على القشر من الإنجاز في أوطان تسْبح في بحر من الثروات، ونصيبها ومآلها الفقر والذل والاستجداء والاستهلاك في الوقت نفسه في أسوأ صوره وشواهده.
كل ما يمكن أن نُطلق عليه شبح إنجاز، من باب التهكّم هو نتاج عناوين لا مضامين. نتاج «سوف»، ونتاج بيع الناس سمكاً في البحر، ونتاج وعدهم بالجنة؛ فيما هم في عمق ولبّ الجحيم.
العالم مليء ومكتظ ومزدحم بالعناوين. وحْشَتُنا الشاملة وفقرنا العام ليس بسبب العناوين. نحن نحمل العناوين تلك؛ لكن لا أحد يكترث أو يلتفت إلى مضامينها. الالتفات إلى المضامين إدانة صريحة لمن تركونا تحت عرائها ووهمها. هم من صنعوا ذلك الوهم والعراء وصدّروه كما يصدّرون الوفود للاطمئنان على أدائهم وعنائهم الملفت في العناوين!
بالعودة إلى أحمد راشد ثاني ذات تسكّع في إمارة أبوظبي ومقولته ابنة وقتها من دون تصنّع أو تحضير: «في العناوين كثيراً ما تكمن اللعنة»، يكمن العبث الذي يدور وراء رواج العناوين وتغييب وحبس المضامين ومصادرتها.
في نهاية الأمر، الشعوب لن تحيا على العناوين كما أنها لن تحيا على الوعود. ومن الشرف لها أن تموت جوعاً من أن تصحو وتمسي على وجبات فارغة وضحلة ضحالة الذين يقفون وراءها. ضحالة العناوين التي لا مضامين يمكن أن تُرتجى من وراء الذين يقفون وراءها ويسوّقون لها في رداءة وسذاجة لا يمكن أن يقرّر أحدهم أنها أول العمْق وخلاصة الدهشة.
كأننا؛ بل نحن ضحايا وشهداء العناوين ولو لم تسل قطرة دم. يكفي أننا ضحايا اللعنة التي تكتنز بها.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3775 - الأحد 06 يناير 2013م الموافق 23 صفر 1434هـ