بعد سنوات طويلة تصل قرابة العقد، يعود المخرج المصري المتميز والمختلف دائماً خيري بشارة إلى الإخراج السينمائي بفيلم روائي طويل أطلق عليه اسم «موندوغ» Moondog.
عودته المرتقبة تلك، والتوقعات الكبيرة، التي وضعها محبوه لفيلمه الجديد، قد تكون خيبت آمال بعض من تفرجوا على فيلمه الذي أقيم عرضه العالمي الأول خلال الدورة التاسعة من مهرجان دبي السينمائي الدولي، التي أقيمت في الفترة (9-16 ديسمبر/كانون الأول 2012)، وكان واحداً من الأفلام التي تنافست على جوائز مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة التي يقدمها المهرجان.
كثيرون تساءلوا عما يريد بشارة أن يقوله عبر فيلمه، الذي بدا كسيرة ذاتية يسرد فيه جزءاً من حياته عبر قصة أكثر ما يمكن أن يُقال عنها إنها مختلفة تماماً عما يألفه المشاهد العادي من أعمال سينمائية، وقليلاً عن أعمال بشارة نفسه.
قد يغفر لبشارة كونه متمرداً دائماً على النسق المعتاد، متميز دوماً في اختياراته، سلباً وإيجاباً، وهو هنا في «موندوغ» يأخذنا بشكل مغاير عن كل ما ألفناه في رحلة داخلية في أعماق نفسه متنقلاً عبر فيلمه، الذي يطول لأكثر من ساعتين ضمن مستويات نفسية وروحية وفكرية وأخرى سياسية ومادية وفلسفية.
في واقع الأمر، إن التدرج والتنقل بين تلك المستويات الذي حققه الفيلم ليس غريباً على مخرج مثل بشارة، وهو الذي يقول إن بداياته مع السينما، ويقصد بدايات حبه لها، جاءت حين لم يتمكن من أن يفصل بين السينما وبين حياته، فهو لسنوات طوال ظل، كما أشار في حديث صحافي، فاقداً للخيط الرفيع الذي يفصل بين السينما والحياة.
استيقظ، كما أشار خلال الحديث نفسه، يوماً، لكنه حينها انتقل إلى السوق، وأصبح خيري السوق والمسلسلات والأعمال التجارية مختلفاً قليلاً عن خيري السينما، الذي قدم روائع مثل «الطوق والأسورة»، و»يوم حلو يوم مر» و»ا ذلك ليس جديداً أو غريباً على مخرج مثل بشارة نشأ في جو متمرد كسر كل الثوابت، كيف لا وهو الذي تعلم أول دروسه السينمائية على أيدي أكبر المتمردين في السينما العربية، يوسف شاهين. كيف لا وهو الذي عاصر الرئيس جمال عبدالناصر وعاش نكسة 1976 في بدايات شبابه ليشهد انكسار الأحلام وتبدل القيم والتشكيك في كل ثوابت الثورة وقيمها.
هو الذي أعلن تمرده من خلال أول أفلامه التسجيلية التي لم يصورها ليتغنى بمآثر قيادات البلد بل ليناقش أوضاع الجنود البسطاء المهمشين الذين لا تتوقف كاميرا الأفلام التسجيلية عندهم.
في الفيلم يخرج بشارة من منزله يوماً ولا يعود. تحاول الأسرة عبثاً أن تعثر عليه دون فائدة، لكن ابنه روبرت، الذي مثل نفسه في الفيلم، يكتشف أن والده تحول إلى كلب.
يجعل بشارة الكلب راوي فيلمه، فهو من ينظر للأمور بشكل مختلف وهو من يحللها ويفلسفها وهو من يتنقل بنا بين عالمين، الأول واقعي ويتعلق بواقع أسرة بشارة، والثاني خيالي وهو العالم الخاص بالكلب. الكلب في فيلم بشارة يحاكم الجميع.
لماذا يجسد بشارة
شخصيته في صورة كلب؟
عبر قصة الفيلم، عبر المكان الذي تدور فيه الأحداث، الاسم الذي يحمله، الكاميرا التي يستخدمها، الخيال الذي يلجئ إليه حين يجعل كلباً يجسد شخصيته، عبر كل ذلك ينقل بشارة إحباطاته النفسية كمخرج وفنان لم يلقَ حظه من التقدير، كما يصور الإحباطات التي تعيشها أسرته في أميركا بدءاً من قريبه الذي يعاني من صعوبات تأقلمه مع الثقافة الأميركية بل ومن قدرته على التكيف مع غربته عن ابنه الذي نشأ هناك، وصولاً لكل الطبقات المهمشة التي تأتي لتحقق أحلامها لكنها تخسر كل شيء وصولاً لحياتها.
استغرق تصوير فيلم بشارة هذا 11 عاماً، إذ بدأ تصويره العام 2000، وهو يقول، خلال حديث له أثناء المهرجان، إنه لم يكن يعرف متى سينتهي من ذلك الفيلم، وكم سيستغرق العمل عليه، لأن «أحداثه تسير في مسارين، شخصي وذاتي يناقش وضع عائلتي في المهجر بأميركا، والمسار الثاني له علاقة بالخيال والغوص في ملامح فلسفية تفرز قصصاً عدة».
فترة طويلة نسبياً لمخرج بتمكن بشارة، ربما يغفر له ناحية كونه فيلم، كما وصفه كتيب مهرجان دبي «فيلم النظرة الأخيرة من ناحية جمالية، وربما أنثروبولجية وثقافية، بما يمنح السرد ملمح الخلود».
ولعل ما يزيد غرابة فيلم بشارة الأخير هذا، أو ما لا يتناسب مع توقعات متفرجيه العاديين، هو استخدامه في هذا الفيلم لأنواع مختلفة من الكاميرات لتصويره، وصلت لاستخدام كاميرا الفيديو اليدوية العادية. وهو يرى أن التصوير بأنواع مختلفة من كاميرات الفيديو هو ما أعطى فيلمه سحره الخاص وناحية جمالية يصعب تكرارها.
المتمرد المحبط
لبشارة كثير من الحق في أن يعلن عن إحباطاته تلك، وهو الذي قدم فيلماً بروعة «الطوق والأسورة»، لكنه لم يقبل من المتفرج في بلده. نعم تمرد كما يقول على السينما السائدة وقدم شيئاً جديداً، لكن الناس لم تقبل فيلمه، فقط أقروا بغرابته، في حين إنه لقي من التقدير الكثير في فرنسا حين احتفى به المخرجون العرب هناك.
إحباطات بشارة لم تنتهِ عند ذلك الفيلم، بل إنه وبعد أن قدم روائع أخرى، كما يقول خلال اللقاء الصحافي ذاته، مثل «يوم حلو ويوم مر» و»أحلام هند وكاميليا»، لم يواجه بأي قبول من المتفرج العربي، بل زاده عدم فهم هذا المتفرج لأفلامه إحباطاً.
ولعل ذلك ما يبرر النقلة المفاجئة في أفلامه حين قدم أفلام مثل «كابوريا» و»أيس كريم في جليم» وغيرها.
يقول بشارة: «بعد أفلامي الأربعة الأولى شعرتُ أني تحدثتُ بوفرة عن كل ما أريد أن أقوله لذا توقفتُ قليلاً. وبدءاً من كابوريا بدأتُ أفكر لماذا لا أجعل الناس تغني؟».
حتى ذلك الغناء الذي وجده البعض لا يرقى لمستوى أفلام خيري، كان مختلفاً ومميزاً ومتمرداً، رغم ذاك لم يقبله المتفرج في بلاده القبول الذي يريده بشارة.
مهرجان دبي...
مساحة للمتمردين
لم يخيب فيلم «موندوغ» آمال الجميع. البعض وجده مميزاً كما صانعه، وكما أفلامه المميزة السابقة. أحد هؤلاء كان المدير الفني لمهرجان دبي السينمائي الدولي، مسعود أمرالله علي، الذي وجد أن الفيلم يعد بمثابة «محاكمة خيري بشارة لكل من حوله ولنفسه أيضاً».
وكما يرى أمرالله علي فإن بشارة «يجدد في الفيلم علاقته مع عائلته ويحاول أن يجيب على السؤال، هل تطغي السينما على الحياة أم العكس، وهو هنا يصور نفسه بهذا الشكل، فهل هو ذلك الكلب الذي لا ينظر إليه كمشروع فنان حقيقي، وهل هذا ما يختلج في شعور المجتمع حقاً؟».
ثم يقول: «بشارة يرجع إلى عائلته في هذا الفيلم ويحاكم المجتمع المصري بقسوة. الفيلم محاكمة طويلة للذات ومحاولة لإعادة اعتبار السينما إليه. كما إن بشارة يجرب أدوات جديدة من المهم أن تكون موجودة في السينما العربية».
وهو هنا يعلق على من لم يجد في الفيلم أية إضافة تذكر لبشارة «إنه مكسب كبير لمهرجان دبي لأن يعطي مساحة للمبدعين أن يكسروا النمط التقليدي ليحاكموا أنفسهم ومجتمعاتهم وسينماهم. قد لا يحب الكثيرون هذه الأفلام وقد يجدون فيها عبثاً كثير، لكننا في المهرجان نعطي فرصة للمبدع لأن يقدم رؤاه بالشكل الذي يراه». «صحيح إنه فيلم غريب، وصحيح إنني توقعت أن لا يستوعب الجمهور الفيلم، لكن الرهان هو أن المهرجان مكان لهذا التجريب. نحب الفيلم أو لا نحبه، نتواصل معه أو لا، هذا أمر متروك للجمهور والنقاد لكن كمهرجان واجبنا ألا نعطي صورة واحدة عن السينما العربية».
ويقول مسعود: «قبل اختيار الفيلم لدخول مسابقة، سألني خيري عن رأيي، فأجبته بأنك أمام حالة واحدة، إما أن يحب المشاهد فيلمك أو يكرهه لا توجد حالة وسطية. إذن صانع الفيلم يعلم أنه لم يأت المهرجان لكي ينافس بل ليقدم تجربة مغايرة؛ ولذا أعتقد أننا يجب أن نكون معه في هذا الاتجاه. في النهاية أعتقد إذا نظرنا للسينما من زاوية واحدة فإننا نحاكمها بقسوة، كأن نريد السينما التي نفهمها ونرفض السينما التي يصنعها الآخر. نحن مع خيري في أن يصنع السينما التي يريدها والتي يفهمها».
ذلك تماماً هو ما يؤمن به بشارة، الذي يؤكد على الدوام بأنه ليس هناك أفلام نخب، وأن كل أنواع السينما يجب أن تتوفر للمتفرج العادي، التجارية وكذلك المستقلة، وليترك الاختيار له.
العدد 3773 - الجمعة 04 يناير 2013م الموافق 21 صفر 1434هـ