العدد 3768 - الأحد 30 ديسمبر 2012م الموافق 16 صفر 1434هـ

المعَذَّبون في الأرض

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

هل الدول تصاب بانفصام في شخصيتها أيضاً؟ ربما. فليس ذلك بأمر حصري على البشر. لكن الصحيح، هو أن كلَّ شيء قد يصاب بانفصام في شخصيته، بما فيه الثقافة. فإذا كانت الدول يقودها أشخاص، ينتمون إلى ثقافة ما، فهذا يعني أن الانفصام قائم في الحالتيْن. انفصام الدولة والثقافة معاً. وهو ما نشاهده أمام أعيننا تماماً ونحن نراقب هذا العالَم المجنون.

وربما أجلى النماذج أمامنا في هذا الأوان، هو حال الولايات المتحدة الأميركية، دولة مصابة بحالة انفصام في شخصيتها بامتياز. هذه الدولة التي استقلت على وقع ثورة عارمة تطالب بالحرية، وصاغت لنفسها دستوراً نظَّر له كبار الحقبة «الآبائيَّة» للديمقراطية، وحقوق الإنسان، كجان جاك روسو، وتضمَّن أسمى ما يمنح الإنسان من كرامة وصَوْن للحقوق، تفعل ما يناقض ذلك، بذات الزاوية الحادة التي ألزمت نفسها بها بالأيْمَان والمواثيق!

دولة لا تؤمن بالأديان، لكن ثمانين مليون أميركي من المسيحيين المتصهينين يتحكَّمون في أمرها أكثر مما يجب! دولة تؤمن بالحريات وتناصرها كواجب أخلاقي، لكنها لم تستح عندما دَعَمَت دكتاتوريين جبابرة كبينوشيه في تشيلي، وماركوس في الفلبين، وبارك تشونج في كوريا الجنوبية، والشاه في إيران. واليوم تكمل مشوار ذلك (ومن دون حياء أيضاً) بدعمها أنظمة قمعية، لا تعرف معنى الديمقراطية لا كتابة ولا جوهراً.

لا تتعجَّب إن رأيتَ محكمة أميركية تحكم على رجلٍ بالسجن لمدة عاميْن ونصف العام بسبب تهجُّمه على كلب، في حين لا تعير بالاً لأي شكوى دولية ضد الطيار الأميركي بول تبيتس الذي ألقى القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما اليابانية وقتل 140 ألف إنسان، وجرح 69 ألفاً آخرين، ودمَّر 90 في المئة من مباني المدينة، وبنيتها التحتية، بل إنهم كرَّموه، بتعيينه ملحقاً عسكرياً في الهند، قبل أن ترفضه الأخيرة!

هذه التناقضات، أو علامات انفصام الشخصية لدى الولايات المتحدة، تجلت بصورة أكبر، في تعاطيها مع الأزمتيْن الأفغانية والعراقية بالتحديد، فضلاً عن الأزمات العالمية الأخرى، كالكوبية والسودانية والإيرانية وغيرها من تجارب الشعوب العربية. لكن السقوط الأميركي الأخلاقي المدوِّي والأبرز، كان في انتهاكها الصارخ لحقوق الإنسان، ولأوضاع المعتقلين في تلك البلدان. وهو ما وثقت له العديد من الكتب والدراسات، وشُكِّلت من أجله اللجان «الميِّتة».

مؤخراً، صَدَرَ كتاب قيِّم، تحت عنوان «التعذيب، التهرُّب من المسئولية... الحكومة السريَّة وجرائم الحرب وحكم القانون» لكريستوفر هـ. بايل، وعرَّبه محمد جياد الأزرقي. الكتاب من أربع مئة وثمانين صفحة من الحجم الكبير، يتوزَّع على صفحاته أحد عشر فصلاً، وثلاثون طيَّاً من المراجع، وصادرٌ عن مركز دراسات الوحدة العربية. وهو كتاب توثيقي مهم، لحقبة مهمَّة، ولدول أهم، وضحايا مهمِّيْن أيضاً. لذا، فإن قراءته تبقى مهمة هي كذلك.

الكتاب، يتحدّث عن مآس يندى لها الجبين، ارتكبتها حكومة الرئيس جورج دبليو بوش، خلال حربي أفغانستان والعراق. سجون أبوغريب وغوانتنامو وأماكن أخرى من العالم. عندما تغوص في بطن الكتاب وفصوله الـ 11، وتقرأ تفاصيل «السلوك السَّادي» للتعذيب الذي قام به مجنَّدون ومحققون أميركيون، لا تستطيع إلاَّ أن تتذكر ما كان يقوله جورج بوش الابن بأن «لا أحد من رؤساء الولايات المتحدة عَمِلَ من أجل حقوق الإنسان مثل الذي فعلته»! هذه هي الحماقة!

بالتأكيد، الأمر لم يكن «تصرفاً شخصياً» كما يحب البعض أن يتدثر به. فـ 100 ألف وثيقة تظهر عمليات تعذيب، لا تترك مجالاً للشك، من أن الأمر أكبر من تصرفات شخصية. أن يكون هناك 300 حالة اتهام بهدر كرامة المعتقلين في عام واحد، ثم 330 حالة أخرى، واختطاف 100 شخص، ووفاة 98 معتقلاً كانوا في عهدة حكومة الولايات المتحدة هو أمر أكبر مما يعتقد البعض.

حسناً، قد تعترف واشنطن بوجود «حالات من التصرفات السادية الجائرة، تصنف بسوء المعاملة المنتظم واللاشرعي»، وغيرها من الحالات التي قد تحصرها «مجلدات»، لكن الأهم من كل ذلك هو التساؤل: هل سينال مرتكبو هذه الجرائم نصيباً من الأحكام المغلظة، أم ان الإعلام الأميركي سينشر أن هذا الجندي المدان «عاش طفولة صعبة»؟! وبالتالي، فإن ذلك، فضلاً عن خدمته في الدفاع عن أمن الولايات المتحدة، يتطلب أن يُنظر له بشكل آخر؟

قد تصبح مسألة المحاسبة ترفاً إذا ما تذكرنا، أن محامي دائرة الاستشارات القانونية في وزارة العدل جون يو. إبان حقبة جورج بوش الإبن، قال في اجتماع غرفة العمليات في البيت الأبيض، وبوجود وفد من وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) ان «رجال الوكالة سيواجهون صعوبات حقيقية في استحصال معلومات مهمة من المعتقلين إذا ما التزموا بمبادئ معاهدات جنيف». لا ننسى أن المتحدث هو رجل قانون، ومسئول مهم في الإدارة الأميركية. إذاً ماذا عسى أن يفعل المجنَّدون الصغار في المعركة، وآمروهم يتحدثون بهذا المنطق؟

لا يتخيَّل أحد، أن الـ 93 من أشرطة الفيديو، و1325 صورة، التي وثقت التعذيب الجنسي في أبي غريب، في أغسطس/ اب من العام 2003 هو أمرٌ خارج، عن «برامج التدخل الخاصة SAPS» والذي دشنه وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد، ثم أسنده لنائبه رئيس الاستخبارات المدنية ستيفن كامبون، بل هو من صميم هذا التوجيه!

عندما تقرأ كتاب «التعذيب، التهرُّب من المسئولية» تكتشف حجم التناقض التام في سلوك الدول. لذا، فنحن لا نتفاجأ بموقف أميركي باهت ضد انتهاكات ما، قد تحصل في بلد أو بُلدان في الشرق الأوسط، لأنهم (أي الأميركيين) الأقدر على فهم «شرعية» هذه الانتهاكات، وبأي مسار قد تأتي. كذلك فإن مثل هذا السلوك السياسي الممتد على طول تاريخ الولايات المتحدة، سيُفهمنا أن الفارق بين السياسيين الأميركيين ليس كبيراً بالشكل الذي نعتقد. وأن «الفارق الوحيد بين الديمقراطيين والجمهوريين هو أن الديمقراطيين يسمحون للفقراء أيضاً أن يكونوا فاسدين»، كما قال الموسيقار والممثل الأميركي أوسكار ليفانت. أحسنت يا ليفانت.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3768 - الأحد 30 ديسمبر 2012م الموافق 16 صفر 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً