من العلوم الإنسانية والاجتماعية المهمَّة، هو الحديث عن «النظرية الاجتماعية». ورغم أن هذا الأمر، قد ارتبط في نواحٍ متعددة بأحوال المجتمعات وعلاقتها بالأديان والتجارب الاقتصادية، إلاَّ أنه ظلَّ وثيق الصِّلة بالسياسة أيضاً. والحقيقة، أن كل هذه العناصر تبدو متداخلة مع بعضها، ومتوقفة أيضاً على بعضها إذا ما دُرِسَت مجمل هذه النظرية، وبالتحديد في الدول الغربية.
وقد كانت النظم وتجاربها السياسية، إحدى أهم تجليات «النظرية الاجتماعية»، التي تمَّ بحثها بعمق، كدالَّة عملية، على سِعَتها. وقد جاء كتاب «الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية» والذي صَدَرَ لأول مرَّة، قبل سبعين عاماً، وبالتحديد في العام 1942، لعالِم الاقتصاد الأميركي من أصل نمساوي، جوزيف أ. شومبيتر، ليعيد قراءة ذلك الموضوع باستفاضة وبعمق شديديْن.
ومن المهم جداً، استعادة ما كتبه شومبيتر في كتابه الثمين، خصوصاً في ظل التحولات العميقة، التي صاحبت -ولازالت- السياسات العالمية، والمواقف الدولية وتجارب الحكم السياسية والاقتصادية، والتي شابها الكثير من التحوُّل، سواءً بالنسبة لأنظمة جنوب أوروبا أو غربها، أو الفارق ما بين الرأسماليات ذاتها، أو الاشتراكيات السياسية، فضلاً عن تجارب الأحزاب في أوروبا، والتي كانت تتنفس برئة «شيوعية» لكنها تمضغ الرأسمالية في قيامها وقعودها.
والحقيقة، أن شومبيتر كان قد انتصر في كتابه للاشتراكية، وتنبأ بانهيار الرأسمالية، كونها حالة لا يمكنها العيش طويلاً لمساوئ ذكرها تباعاً. لكن الذي حصل هو العكس، فقد انهار المعسكر الاشتراكي، وبقيت الرأسمالية متوحشة. والواقع يشير إلى أن هذا المآل الدراماتيكي لم يفسِد كتاب شومبيتر، ولم يُبطِل استنتاجاته؛ على اعتبار أن الرجل كان بعيداً عن الأدلجة والأطر الحزبية، التي «قد» تعميه عن الموضوعية، والتزام الحياد، عند ولوجه البحث والتمحيص.
لقد كانت صياغته للأفكار عالية الجودة، وبطريقة خلاقة جداً. وكانت المعطيات التي تحصَّل عليها جديرةً بأن تكون أساساً للبناء عليها، والدلائل التي قدّمها صائبة ومحقة، وبالتالي، فإن البحث كان علمياً بامتياز. لكن ذلك ليس هو المدار الذي أقصد، بل هو الوصول إلى نتيجة أهم، تتعلق بمصائر النظريات، وموضعها (والتجارب الحزبية) داخل السياسة، وداخل مسطرة القرار.
ما أعنيه، أن الاشتراكية عندما جاءت، وازدهرت ثم ترهَّلت حتى ماتت وتحجَّرت، لم يكن ذلك حجَّةً على أن الرأسمالية هي الأسلم للبشرية. بل إن أفول الأولى، وازدهار الثانية، كان بفعل الصراع الدولي والسياسي بين هاتيْن النظريتيْن، واستعاره في حربٍ باردة، أنفق فيها أحد الأطراف ستة عشر تريليون دولار على التصنيع المضاد، وأنفق الطرف الآخر (ربما) ذات المبلغ أو أقل، وهو ما يعني انتقال الصراع من صراع فكري إلى صراع سياسي قَتَلَ الأفكار ووأدها دون النظر إلى ماهيتها.
وبالتالي، هذا الأمر يجعلنا أمام استحقاق واقعي يمكن أن تلتفت إليه
–بالتحديد- الأحزاب في العالم العربي، وهو المتعلق بمصير المشروع السياسي عندما يُوضع في الحكم، ويلتزم بتوازنات السياسة الدولية، والتحالفات الداخلية، القائمة بالأساس بين متغيِّرات متنافرة جداً، وعلى مصالح خاصة وعامَّة، وطبقات برجوازية أو وسطى، وأخرى أوليغارشية، تتصارع الأولى مع الحكم على الحقوق، في حين يكون صراع الثانية فيه مباشرة، على المنافع والامتيازات الخاصة.
تجارب الحكم الناجحة والفاشلة، يخلقها مناخ خارج عن «طهرانيتها» أو «دَنسها». هو مرتبط بشكل عضوي بظروف البقاء، التي لا تخلقها المبادئ عادة، وإنما نقائضها من العمل السياسي غير المحكوم إلاَّ بنظام المصلحة «أساساً» وليس «عَرَضًا». بالتأكيد، فإن نقاء الفكرة ومراعاتها للأخلاق، تمنح المشروع دفعاً ذاتياً، ومزيداً من المصداقية، لكن ذلك يبقى آنياً، وقابلاً للانحسار، عندما تتغاير المسافة الفاصلة ما بين الوعود والإنجاز، الذي بدوره يصبح مؤجلاً باستمرار.
إننا نتساءل، ما الذي يجعل دولاً خائبة، وشائخة، لا يوجد فيها أدنى مستويات الحكم الرشيد أن تبقى وتستمر، في حين، تتزلزل أقدام دول أخرى، أكثر منها رسوخاً، وأزيد منها حيوية في المجاليْن السياسي والاجتماعي، أو على أقل تقدير، أفضل منها حالاً، سواء في السياسة أم الموقع الجغرافي أو التاريخ والحضارة وعراقة الناس فيه وتنوّعهم؟! هذا الأمر نجده اليوم ماثلاً أمامنا بقوة.
نظريات السياسة جيدة ما دامت في الكتب، لكنها تصبح عالةً على نفسها عندما توضع على قاطرة الحكم بذات المنسوب من المبادئ والمعايير غير الرَّخوة.
هي تتكلَّس وتنكمش لأنها مُصاغة بالأساس خارج نطاق التدافع الذي ينتجه الحكم، وخارج مسار التحالفات التي تحكم مراكز القوى، وبالتالي، يصبح الأمر وكأنه شعار بلا شعور، ورأس بلا جسد، وهنا أصل التباين.
المشكلة التي رافقت التجربة الشيوعية هي أنها ساوت ما بين الآيديولوجيا والمصلحة، وضحَّت بلقمة عيش رجل في موسكو، في سبيل رصاصة تذهب إلى وسط إفريقيا. أما في العالم العربي، فقد عاشت الأحزاب الشيوعية ذات المشكلة، ولكن بشكل آخر، وهو الاستغراق في «فقه الشعارات» ودراسة النظريات دون مقيستها لا على الزمان ولا على المكان. وعندما بدأت المراجعات السياسية والعقائدية تجتاح الوطن الأم، كانت هذه الأحزاب تُبقِي على ذات الأدبيات.
وهو الأمر الذي تكرره الأحزاب الإسلامية اليوم أيضاً، وهي التي استطاعت أن تختزل كل شيء في كلمات تكتَب على يافطة، معتقدةً بأن الدِّين يُطبَّق بمثل ما تشتهي هي. والتجربة «الغائبة» عند الإسلاميين أكثر ترسخاً كون خلو التاريخ الإسلامي القريب من تجارب سياسية حَاكَت على أقل تقدير تحولات القرنين السابع والثامن عشر، قبل أن تأتي تجربة الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979، والآن الإخوان المسلمين في تونس وليبيا ومصر وسورية.
بالتأكيد، هناك معيار تصالح المنفعة مع المبدأ، ولو بحدود دنيا، وهو أمر أصيل في السياسة. إذ لا يمكن أن تكون الموضوعات المتعلقة بمستقبل الأمة، والمحافظة على سلامتها، وسلمها الأهلي، محل تفاوض مع المنفعة. وهو ما يمكن التطرق إليه بتوسّع في مقال منفرد.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3766 - الجمعة 28 ديسمبر 2012م الموافق 14 صفر 1434هـ
بوركت
مقال راقى وتنظير سليم
important
تجارب الحكم الناجحة والفاشلة، يخلقها مناخ خارج عن «طهرانيتها» أو «دَنسها». هو مرتبط بشكل عضوي بظروف البقاء، التي لا تخلقها المبادئ عادة، وإنما نقائضها من العمل السياسي غير المحكوم إلاَّ بنظام المصلحة «أساساً» وليس «عَرَضًا»