[ أنهى المصريون في وقت متأخر من يوم السبت، المرحلة الثانية من الاستفتاء على دستور ما بعد ثورة 25 يناير 2011. وإذا ما وضعنا النتائج المعلنة، حتى لحظة كتابة هذا الحديث في الحسبان، فإن من المتوقع أن يفوز المطالبون بنعم، بحصدهم لأغلبية الأصوات. وبذلك يتحقق النصر لفريق رئيس الجمهورية محمد مرسي، وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين، والمجموعات السلفية التي تحالفت معهم في معركة التصويت على الدستور.
وعلى رغم هذه النهاية السعيدة لأنصار الدستور، فإنها لا تبدو نهاية المطاف في التجاذبات والصراعات التي حدثت حوله، وخصوصاً الاشتباكات الدموية، في عدد من المحافظات المصرية التي حدثت خلال عملية الاستفتاء. فالصراعات بين القوى المؤيدة للنظام والمعارضة له مرشحة لتداعيات وانهيارات أكثر من تلك التي شهدناها، إثر صدور البيان الدستوري الذي حصن، بموجب الرئيس مرسي قراراته عن المساءلة والرفض، من قبل المحكمة الدستورية العليا.
النصوص الواردة في الدستور، على رغم الخلافات الحادة بشأنها، لا تبدو هي المعضلة الحقيقية، ولكن المناخات التي صدرت فيها هذه الوثيقة هي الجانب الأكبر من الأزمة، والأزمة تبدو على الدستور نفسه أكثر مما هي على نصوصه.
الرئيس مرسي وصل إلى سدة الحكم في ظروف بالغة التعقيد، وكان المرشح الذي يليه في الانتخابات الرئاسية هو الفريق أحمد شفيق آخر رئيس للوزراء في النظام القديم الذي أطاحته الثورة. بمعنى أن خيارات الناخبين في المرحلة الثانية للانتخابات الرئاسية محدودة جداً، واقتصرت على خيار بين اثنين، إما مرشح الحزب الذي أطاحته الثورة، وإما مرشح الإخوان المسلمين، تحت مسمى حزب العدالة والتنمية.
في ظل محدودية الاختيار، فإن كثيراً من الثمانية ملايين الذين انتخبوا مرسي، كانوا تحت تأثير شعار «النار ولا العار». وقد تصوروا أن الإخوان المسلمين الذي وصلوا إلى السلطة، مدعومين بتيارات سياسية أخرى، سيحفظون الجميل لهذه التيارات، وأن الرئيس المصري سيتصرف كزعيم لكل المصريين، وليس كعضو في جماعة سياسية، باعتبار أن الشعار الأول للثورة هو إسقاط النظام الشمولي الذي جثم على صدر مصر عقوداً عدة.
سارت الأمور للأسف، باتجاه مغاير لمعظم التوقعات، فالنظام واجه انفلاتاً أمنياً لم يتمكن من تطويقه حتى هذه اللحظة، ونسبة البطالة والجريمة ارتفعت بشكل غير مسبوق، والسياحة تراجعت كثيراً، ولم تعد تؤثر في تحسين المستوى الاقتصادي للبلاد، والرئيس الذي وعد غداة تنصيبه أن يكون مع الشرعية، وألا يقدم الدستور الجديد للاستفتاء عليه إلا بعد توافق عام، نكث بوعده، وشكل جمعيةً تأسيسيةً للدستور، معظم أعضائها من جماعته، والمتحالفين معه.
المعارضون للرئيس، نظموا صفوفهم، وشكلوا جبهة إنقاذ لمناهضته، وفي التقييم الموضوعي لتوازنات القوة، قد يبدو الرئيس وجماعته على السطح، ممسكين بزمام الأمور، وأنهم يحظون بتأييد الأغلبية، لكن هذه القراءة تبدو مضللة، فالجماعة تسيطر من دون شك، على معظم المؤسسات الدينية، بما في ذلك المساجد وأماكن الوعظ، لكنها لا تمثل قوة تذكر وسط الطبقة المتوسطة، بكل تشعباتها والمؤسسات الفنية، والثقافية والفكرية والإعلامية. يضاف إلى ذلك كله أن الثورة قامت في الأصل من أجل تأسيس دولة مدنية وديمقراطية، وليس من أجل إعادة نظام الخلافة، كما يروج الإسلام السياسي في أدبياته وبياناته.
وبعيداً من البعد القانوني وتفسيراته، فإن الدستور، هو ليس كأية وثيقة من وثائق الدولة الأخرى التي لا تشترط توافق المجتمع بكل قواه الحية عليه.
إنه القانون الأعلى الذي يشمل مجموعة القواعد الأساسية التي يتم وفقاً لها تنظيم الدولة وممارسة الحكم فيها، وضمان نجاحه، انعقاد الإرادة الشعبية حوله. ويتحقق ذلك، في البلدان الديمقراطية العريقة، بموافقة الهيئة التشريعية المنتخبة بأغلبية ساحقة عليه، ومن ثم تحقيق استفتاء شعبي عام، لضمان الموافقة عليه من قبل الشعب.
ولأن الدستور هو مرآة عاكسة لتطور المجتمع، فإنه بالتدرّج يتحول إلى عرف، لا تستقيم من دونه أمور الدولة والمجتمع. ومع تعمق العلاقة بين الدولة والمجتمع، تصبح الممارسة الديمقراطية من البديهيات، ولا تعود هناك حاجة إلى تأكيدها عبر وثائق ملزمة، كما هو الحال الآن في بريطانيا، ودول أخرى.
في هذه الحالة، يتم الاعتماد على تجميع سوابق الأحكام القضائية والقواعد العرفية.
الخلاصة هنا، أن تصويت الأغلبية على الوثيقة الدستورية، في مصر لا يجعل منها موضع اتفاق الجمهور، لأن المطلوب في حالة التصويت هذه هو تحقق أمرين، أولهما أن تكون نتيجة التصويت بالأغلبية الساحقة، وليس فقط بتخطي الـ 50 في المئة من الأصوات. والأمر الثاني، هو اتفاق كلّ مكوّنات النسيج المصري عليه.
إن الأساس في الدولة المدنية، هو تحقيق مفهوم المواطنة، واحترام مبدأ التنوع. ولا يعلم المرء كيف يتحقق مبدأ المواطنة، في ظل حرمان شريحة من المجتمع، مهما بلغ تعدادها، لأسباب دينية وفئوية وسياسية من حقوقها. إن غياب التوافق الاجتماعي على وثيقة الدستور، من شأنه أن يفتح بوابات الصراع، وأن تجد الأقليات المحرومة وسيلتها لنيل حقوقها، في الانفصال عن المركز، لتحقيق صبواتها في الحرية، وتثبيت هويتها الثقافية، وذلك ما يلحق الضرر بالوحدة الوطنية، ويفتح الباب للاختراقات الخارجية.
لن تطول بالإخوان المسلمين، مهرجانات الفرح، فالتصويت على الدستور، سوف يكرس حالة الانفلات الأمني، ويعطل مصالح المصريين، ويحرمهم من التوافق والانطلاق إلى فضاءات يسود فيها التسامح والمحبة. وما لم تعمل القيادة المصرية على تحقيق المصالحة مع النخب الفكرية والثقافية، فإن أمام أرض الكنانة أياماً صعبة، فهل ستسعى إلى التخلّي عن مفهوم الغلبة، وتنتقل إلى مفهوم المواطنة والتوافق؟
العدد 3765 - الخميس 27 ديسمبر 2012م الموافق 13 صفر 1434هـ