في عالم يواجه شحاً متزايداً في المياه تتضاعف التحديات لإيجاد حلول للمشاكل المتعلقة بالمياه. ففي المناطق التي تعاني من ندرة الماء نلاحظ الانتشار الواسع لاستغلال المياه بشكل غير مستدام، ما يخلق منافسة أشد على مصادر المياه العذبة.
ومع وجود العديد من النزاعات التي فاقمها سوء استخدام المصادر المائية، تزداد تعقيداً التحديات التي تواجه كلاً من السلطات المحلية واللجنة الدولية للصليب الأحمر. ففي الشرق الأوسط مثلاً أدت المنافسة على مصادر المياه إلى عملية استغلال المياه بشكل غير مستدام، ما أدى بدوره إلى تهديد هذا المصدر الحيوي بحد ذاته. كما نجد دائماً في البلدان التي تعاني من نقص المصادر المائية والمشاكل البيئية توترات ناتجة عن حالات مزمنة من عدم المساواة، حيث نجد ضمن السكان المدنيين مجموعات كبيرة من المهمشين والمتروكين دون خدمات أساسية، كالمياه النظيفة والصرف الصحي.
ويواجه الشرق الأوسط بشكل خاص العديد من التحديات البيئية، بما فيها انخفاض نصيب الفرد من الثروة المائية، وتناقص الأراضي الصالحة للزراعة، والمشاكل الصحية الناتجة عن التلوث، وانحسار المناطق الساحلية، إضافة إلى تعريض الموارد البحرية للخطر. فالضغوط على البيئة في ازدياد مستمر ويتوقع استمرارها في ضوء التغيرات الحاصلة في المناخ. بذلك لن يكون مفاجئاً إذا ما أدى ازدياد المنافسة على الموارد الشحيحة وتدهور المصادر الطبيعية إلى تفاقم التردي في الوضع الإنساني، ما لم تتم معالجة هذا الوضع ما سيؤدي بدوره إلى المزيد من الظلم الاجتماعي ومن احتمالات الهجرة السكانية. وإذا ألقينا نظرة على قضايا استدامة المصادر البيئية والطبيعية بالمقارنة مع النمو السكاني السريع، سنجد النتيجة حتماً محبطة. فمن الواضح تماماً أن غياب الأمن المائي والبيئي سيخلق المزيد من الضعف ويعيق النمو الاقتصادي، واضعاً العبء الأكبر على المجتمعات الأكثر تهميشاً، والتي تعاني أصلاً من حالة عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات الاجتماعية التي تعصف بالمنطقة.
وبحسب برنامج الأم المتحدة الإنمائي (UNDP) فإن «شح المياه هو أحد أخطر التحديات البيئية التي تواجه المنطقة العربية»، علماً بأن ندرة المياه الشديدة في معظم مناطق الشرق الأوسط لا تعود إلى الظاهرة الطبيعية فقط بل غالباً ما تكون من صنع الإنسان. فسوء توزيع المياه اجتماعياً تعتبر مسألة إدارية تتعلق بالقرارات المتخذة بشأن استثمار مصدر مائي ما وتخصيصه لهدف معين.
ودفعت الصلة الوثيقة بين المياه والتقدم الاقتصادي بالدول و/أو الجماعات إلى استغلال مصادر المياه العذبة إلى أقصى حد، وعلى حساب هذه المصادر.
مياه افتراضية
واكب جهود دول الشرق الأوسط للتغلب على نقص إمدادات المياه اعتماد تلك الدول أكثر فأكثر على استيراد المواد الغذائية الزراعية، التي تم إنتاجها باستخدام مياه دول أخرى (وهو ما يعرف باستيراد «المياه الافتراضية»)، حيث تدخل معظم «المياه الافتراضية» إلى منطقة الشرق الأوسط عن طريق استيراد القمح والأرز، وهي المحاصيل التي تتطلب زراعتها مياهاً وفيرة نسبياً.
وعلى رغم أن المياه الافتراضية تلعب دوراً مهماً في تعويض ندرة المياه إلا أنها قد تجعل الحكومات عرضة لتقلبات أسعار السلع الأساسية في السوق، مثل القمح وغيره من أنواع الحبوب. أضف إلى ذلك أن الاعتماد الكبير على استيراد المياه الافتراضية قد يؤثر سلباً على شريحة السكان (الكبيرة نسبياً) التي تعمل في القطاع الزراعي بشكل مباشر أو غير مباشر، ويضر بمعيشتهم ووضعهم الاقتصادي، إذا لم تتخذ الإجراءات الكفيلة بإيجاد فرص عمل جديدة خارج القطاع الزراعي. ويمكن هنا أن نعزو التسارع الكبير في الهجرة إلى المدن في المنطقة العربية إلى ذلك السبب، نظراً لأن الفئات المتضررة والعاطلين عن العمل من السكان لابد أن يسعوا لإيجاد الوظائف في قطاعات وأماكن أخرى.
المياه في مناطق النزاع
تكتسب قضية المياه أهمية كبرى في مناطق النزاع المسلح، حيث تؤدي انقطاعات التيار الكهربائي إلى نقص في التزويد بالمياه، ما يؤثر سلباً، لا على الحصص المنزلية فحسب بل على إمدادات المياه للزراعة أيضاً، وبالتالي على سبل العيش. وغالباً ما يمتد أثر النقص في المياه ليؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الغذائية الأساسية. كل ذلك يفاقم الاستياء في أوساط فئات السكان المتضررين، والذي قد يؤدي طول انقطاع تقديم الخدمات الأساسية لهم إلى تدني مستوى معيشتهم. ومرة أخرى، تتأثر المجتمعات المهمشة أكثر من غيرها بهذه الحلقة المفرغة بين المياه والطاقة والغذاء.
هذه العوامل المشتركة، التي تساهم في حدوث النزاعات، كلها تفاقم من وضع السكان المتضررين، ما يعرقل قدرة المجتمعات المحلية ككل على مواجهة الكوارث الطبيعية كالجفاف.
يمكننا ملاحظة الآثار المباشرة للنزاع المسلح على كل من الثروة المائية والزراعية، وعلى مستويات التلوث بالنفايات، والتدهور الملموس للنظم البيئية، على سبيل المثال لا الحصر. وفي الوقت نفسه، فإن الآثار غير المباشرة مهمة كذلك من حيث انخفاض القدرات المؤسسية للإدارة البيئية وضعف آليات التكيف التي يستخدمها السكان المدنيون نتيجة لهذه النزاعات. فهذه الآثار، المباشرة وغير المباشرة، يمكن أن تشكل تحديات خطيرة للسكان المتضررين على المدى الطويل، وتقلص من إمكانية الانتعاش لمدة طويلة بعد نهاية النزاع.
المياه طريقاً للسلام
وعلى رغم ما سبق، يمكن للمياه أن تكون سبباً للسلام في بعض الأحيان، فعندما تتفق دول أو جماعات على التعاون الحقيقي في مجال المياه، غالباً ما يعود ذلك إلى إدراكها بوجود مصالح مشتركة على كفة الميزان، من حيث حماية الموارد المائية واستخدامها المستدام، إضافة للفوائد التي يمكن استحداثها والتشارك بها. ولكن للأسف، عادة ما تكون المياه سبباً في تفاقم التوتر الناشئ عن النزاعات والصراعات القائمة أصلاً. وأدركت اللجنة الدولية أن إيجاد وتنفيذ ودعم حلول أفضل للمشاكل المتعلقة بالمياه «على أرض الواقع» في المناطق التي تعاني من نزاعات مستمرة يتطلب دمج السياق المحلي بذلك. ففهم طبيعة السياق المحلي واستخدام الممارسات المحلية والتأكد من إشراك جميع الأطراف المعنية، كلها عناصر أساسية عند إيجاد حلول مستدامة ذات إمكانيات لتوسيع نطاق التعاون.
أما بالنسبة للتدخل الإنساني، فيكمن التحدي الأكبر في القدرة على إيجاد بيئة ملائمة للتعاون الفعال وإدامته. وفي هذا المجال، يمكن أن يساهم التعرف على المشكلات والمخاطر المشتركة بين مختلف أطراف النزاع في إيجاد الحلول المستدامة لمشاكل المياه من خلال رؤية مشتركة يتم التوصل إليها عن طريق تعزيز الحوار. سيساهم ذلك في تطوير المفاهيم والمؤسسات المحلية إضافة إلى تأسيس طرق غير تقليدية في إدارة المياه واعتمادها لاحقاً. إن تعزيز الممارسات المحلية في إدارة المياه ودعم المؤسسات المسئولة عنها، مع اعتماد الطرق غير التقليدية في إدارة المياه، ودمجها كجزء من التدخل الإنساني، مسألة في غاية الأهمية رغم صعوبتها والتحديات الناتجة عنها.
تعزيز الأمن الإنساني
إن نجاح الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية والبيئية يعني الأمل بتعزيز الأمن الإنساني، سواء من حيث سبل العيش أم النظم البيئية، كما تعتبر الإدارة الناجحة عاملاً مساهماً في الوقاية من نشوب النزاعات في منطقة تجاوز عدد سكانها 300 مليون نسمة. إلا أن كل ذلك يعتمد على الإيمان بأن المسئولية البيئية المشتركة بين جميع الأطراف المعنية ستعمل على منع حدوث الأضرار البيئية الكبيرة أو تخفيفها، مع الاستمرار بالجهود على المستوى الدولي لضمان فرض قواعد القانون الدولي الإنساني الوقائية وتنفيذها. أما في الحالات التي لم يتحقق بها ذلك، فيأتي دور التدخل الإنساني بحيث يكون هدفه بناء قدره المجتمع المحلي وتمكينه من الصمود من خلال نظرة أكثر شمولية إلى الأمن الإنساني تدمج قضايا أمن المصادر المائية والبيئية ومصادر الطاقة والغذاء والاقتصاد (سبل العيش) في برامج المساعدة. وعلى رغم استمرار العملية السياسية وعملية تطوير وتدوين القواعد الدولية التي تجري بهدف حل النزاعات والتوترات، إلا أن الوقت ليس عامل ترف بالنسبة لشرائح السكان التي هي بحاجة ماسة للمساعدات الإنسانية.
العدد 3765 - الخميس 27 ديسمبر 2012م الموافق 13 صفر 1434هـ