العدد 3761 - الأحد 23 ديسمبر 2012م الموافق 09 صفر 1434هـ

ليلى والذئب وعالم اليوم في الغابة الحديثة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في كل ثقافات الدنيا، ثمّة أكثر من ليلى وأكثر من جدّة «مريضة» وأكثر من ذئب وأكثر من غابة. المشكلة في من يحدّد ليلى ومن يحدد الجدّة ومن يحدّد المرض ومن يحدّد الذئب ومن يحدّد الغابة. الذئاب أكثر بهائم الله عرضة للافتراء والتجني منذ ما قبل غدْر الإخوة الأول، ومنذ ما قبل اكتشاف البئر وهندستها.

ليلى المعاصرة لا تحتاج إلى أن تكون بليدة كي تقطع غابة لوحدها لتكتمل إثارة المشهد بذئب يترصّدها ويتختّل. العالم الحديث أصبح غابة بأحراش أسمنتية. والذئاب في صورة معاصرة وبذات أنيقة من «أرماني» إلى «غوتشي»، فيهم اللصوص على مختلف مواهبهم وقدراتهم على تصفير جيوب المواطن أو تصفير موازنات الدول. وحدها العجوز في الرمز، ذلك الصمت إزاء كل العبث والنهب وامتصاص عرق الإنسان والمتاجرة به في بورصات هي تحت أكثر من مسمّى؛ لكنها لن تكون بمنأى عن بورصات الدم والأشلاء والمتاجرة بالدِّين والدنيا.

الغابة اليوم في نفوس أكثرنا، في طمعهم حتى في الشحيح من رفاهية المهمّشين. في اختطاف لقمة من لا يجدون ما يقيم أوَدَهُم. في التآمر على الحقوق. في افتعال الأزمات. في ذئبية مستشرية في الأخلاق التي لن تكون أخلاقاً بعد تلك الذئبية.

ليلى اليوم هي تلك الحقوق المؤجّلة أو المصادرة أو التي تظل في دائرة الاعتراف الحرام بها. هي الجميلة والكالحة في الوقت نفسه. هي الوجه المائل إلى أقصى درجات الحزن والغصّة. هي بحور من الدموع والدماء التي على قدْر من السماحة والفيض. هي بسْط اليد في ظل قبض أرواح ومصائر وحتى حقوق في الهواء الشحيح والذي هو في طريقه إلى المصادرة.

الغابة أيضاً تلك القدرة العجيبة على فعل الترصّد الذي لا يملك أدنى حق. نتحدّث هنا عن ترصّد أعداء يطمعون في الحدود والثروات والكنوز. ليست تلك التي هي حق للأسوَد والأبيض والأصفر من أهل الأرض بقدر ما هي وهم حقٍ لفئة قليلة غلبتْ فئة كثيرة بإذن طمعها وجشعها وتكالبها المرَضي على النهب وتصفير الأرض وما عليها وفي المستقبل ما يعلوها. بالهواء الفاسد الذي يغزو رئات الناس ليدمّرها ضماناً لرفاهية آخرين واستمرارها.

العجوز أيضاً في توظيف للنص بعالميته الممتدة من حاضرة لندن إلى مجاهل إفريقيا في قراءتنا اليوم، لا تنفصل (العجوز) عن طبيعة السياسات اليوم التي تدير العالم بروح المقامرة بكل شيء. تلك الشيخوخة في المبنى والمعنى. تلك التي تقود شعوباً وأمماً وجدت نفسها تحت رحمتها من جحيم يمكن تقبّله والصبر عليه إلى جحيم عملاق يلتهم الأرواح والإنجازات والأحلام وكل طبيعة بشرية مسلّحة بالإرادة إلى أكوام من الخرْدة والأطلال.

وبالعودة إلى ليلى هي ذاتها نسخة من محاولة سرقة الوعي والاستدراج. يدّعي الذئب في الراهن العربي أنه الجدّة. أنه المستهدف والمحاصر في وقاره/ وقارها، والمطلوبة رقبته؛ على رغم الشراسة التي تصل العالم وعلى الهواء مباشرة. ما يحدث يتجاوز الشراسة بمراحل. إنها محاولة محاكاة قيامة الله على أرضه وفي صورة مصغّرة؛ ولكنها تأخذ مصائر ملايين البشر إلى الحتف من دون سابق إنذار. منذ متى منح الحتف ضحاياه وموضوع قبْضه فرصة إنذار أو تحذير خطّي؟

الغابة اليوم بالعودة إليها، تتخفّى وتسْتتر بكذب لا حصر له. في الزائف من مداخل المدن. في السياسات التي لا همّ لها إلا الاستيلاء. الاستيلاء على ما تطوله، ومحاولة الاستيلاء على ما لا تطوله أيضاً. الغابة اليوم في هذا الكذب الذي هو بمثابة شريعة معتمدة ودساتير ومشاريع رخوة تتغنّى بحقوق الإنسان الذي لا اعتراف بحقوقه أساساً إلا في حفلات الاستقبال وحفلات الكوكتيل وما أدراك ما الاستقبال وما أدراك ما الكوكتيل!

ثم إن الذئاب اليوم لم تعد ذئاب الأمس. ذئاب اليوم ترتاد أرقى الجامعات في العالم بدءاً ببرنستون، هارفارد، يال، كولمبيا، مروراً بأكسفورد، كامبريدج، وليس انتهاء بالسوربون. جامعات من المفترض أن تعمّق التحضّر في إنسانها؛ لكنه بمجرد أن يغادرها يلتحق بأقرانه من كائنات الغابة في صورتها الحديثة، حنيناً إليها وإلى البيئة التي يجد أنها تمثّل روحه وعالمه الحقيقي.

ثم إن الذئب القبيح وليلى الجميلة يراد لكل منهما أن يتبادلا الأدوار عن طيب خاطر أو عن غصْب. والغصْب هو السائد اليوم. القوة اليوم في جانب تطفلها وجبروتها، باتت تتحكّم فيما بعد المفاهيم تلك. باتت تتحكّم فيما بعد التفاصيل في حياة إنسان غابتها المُستَلب في إرادته وخياره وقدرته على أن يحدّد حتى حقه في أن يعوي ويموء وينبح ويخور بالطريقة التي يرى؛ لا بالطريقة المرسومة له وضمن الإيقاع المحدد له.

الحكاية في نهايتها، والمخيّلة التي أوجدتها لم تكُ بريئة في الزمن الذي وجدت فيه. لم تكُ بريئة ليس بمعنى النيْل من نبْل هدفها ولكن بمعنى استشرافها وتنبؤها بالذئاب التي ستحتل المنصّات والغابات التي ستأتي وتظهر إلى العالم مموّهة في تقنية مثيرة لما بعد الإعجاب، واكتشافات يقف أمامها الإنسان مذهولاً؛ ولكنها نتاج غابة في صورة أو أخرى. غابة الأسواق كي لا ننسى العابرة للحدود، وذئاب الشركات متعددة الجنسيات، وقبح احتلال الدول عبر الاقتصاد بدل احتلالها بالقوات البرية وقوات المارينز ومحاصرة الحدود البحرية بحاملة الطائرات.

قد تكون القصة كتبت وقتها لما قبل النوم. ولا أدري كيف يجيء نوم بحضور ذئاب ومحاولة غدر وغابة! لكنها في واقع الأمر تبعث مع الزمن صحوة وانتباهة وربما سهَراً يطول بكل تلك الأطراف الباعثة على التحفّز والقلق باستثناء ليلى الجميلة التي ستظل جميلة على رغم استشراء القبح في هذا الزمن والأزمنة التي ستليه، وعلى رغم سذاجة أن تكون الجدة مريضة (في النص). (بطبيعة الحال جدة لابد أن تكون مريضة. هل يتحتم عليها أن تكون راقصة باليه مثلاً؟).

ادّعاء النوم في القصة نفسها، هو الآخر ادّعاء إذعان وصبر على كل ما بعد التجاوز. قد تنام أو تخمل شعوب لكنها في نهاية المطاف إذا استمرت في تلك الحال تكون خلاف فطرتها ودورها وقدرتها على أن تكون صانعة لحركة الحياة ومتحكّمة في تلك الحركة لا أن يطلع عليها ذئب من غابة العالم الحديث ليملأ وجهه بالمساحيق في محاولة منه لإيهام العالم بأنه أبٌ أو أم أو جدّة العالم، فيما هو ذئب طال ذيله أم قصر!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3761 - الأحد 23 ديسمبر 2012م الموافق 09 صفر 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:57 م

      الذئب

      مقالك رائع فعلا الذئب ذئب ولو تمكيج وتلون ولو ادعى انه بشوش وكريم

اقرأ ايضاً