في الحقيقة، لا نجد مبرراً واقعياً لرفض المبادرات التعليمية العالمية العاصفة بنا في دول مجلس التعاون الخليجي سوى تمسُّك البعض - ممن يهابون رياح التغيير - بالتساؤلات النمطية التي دأبنا على سماعها واجترارها دون إيجاد الحلول لها، مثل: ما رؤيتها؟ وما هويتها؟ وما جدواها عند مقاربتها للبيئة الخليجية؟ وكأننا نعيش في فضاء معزول تماماً عن المؤثرات الخارجية التي تحيط بشبابنا وشاباتنا من طلبة المدارس الذين يتفاعلون معها بسرعة مذهلة قبل المعلمين والمهتمين بالشأن التعليمي.
من المهم جداً إدراك فلسفة الإصلاح المدرسي الذي يبدأ من إحساسنا بعدم إبقاء الوضع على ما هو عليه من تراجع وضعف في الأداء المدرسي، وضرورة البدء بالتغيير الفعلي من غير وضع المساحيق هنا أو إعادة المونتاج هناك.
نقرأ (مثلاً) تصريحاً جريئاً للغاية لوزير التربية ووزير التعليم العالي في دولة الكويت نايف الحجرف في مارس/ آذار الماضي «بأن نسبة 85 في المئة من المواطنين الكويتيين غير راضين عن الوضع التعليمي في دولة الكويت»، رغم أن برنامج عمل الحكومة الكويتية والخطة الإنمائية لوزارة التربية هناك للسنوات 2010 - 2014 يقوم على تعميق مفهوم جودة التعليم في المنظومة التعليمية.
وفي دولة قطر، تمَّ وضع خطة استراتيجية شاملة لتغيير التعليم وتطويره في العام 2002 وقَّع عليها أمير دولة قطر، تمخض عنها مشروع «المدارس المستقلة» التي تأسست في العام 2004، وهي مدارس تحظى بتمويل حكومي من المجلس الأعلى للتعليم، ولها استقلاليتها التامة شريطة الالتزام بالضوابط المنصوص عليها في الاتفاق المبرم مع هيئة التعليم لضمان المحاسبة والجودة في التعليم.
كما وأطلقت البحرين مشروعاً وطنياً لإصلاح التعليم والتدريب وسوق العمل بقيادة ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة في العام 2005، والذي بدأ بعصف ذهني (Brainstorming) من مختلف قطاعات وفعاليات المجتمع البحريني الاقتصادية والسياسية والفكرية، مع دراسة مستفيضة ومعمَّقة أجرتها شركة «ماكينزي» الاستشارية العالمية، ليكون العام 2009 عاماً مهماً في المسيرة التعليمية بتأسيس هيئة ضمان جودة التعليم والتدريب وكلية البحرين للمعلمين وبوليتكنك البحرين، ووضع استراتيجية لتحسين التعليم العالي وإنشاء إطار عمل للمؤهلات التعليمية الوطنية، والعمل ببرنامج تحسين أداء المدارس في سبتمبر/ أيلول من العام 2008، وتدشين مشروع «التلمذة المهنية» الذي يهدف إلى تحسين مخرجات مشروع التعليم من خلال العمل على تزويد الطلبة بالمهارات التي يحتاجونها لسوق العمل، ومعادلة بعض المواد التي يدرسها الطلبة المنخرطون في هذا المشروع مع كلية بوليتكنك البحرين ومعهد البحرين للتدريب، وإعفائهم منها خلال دراستهم في هاتين المؤسستين التعليميتين على اعتبار أن الطالب أو الطالبة قد اجتازا المواصفات المهنية اللازمة للإعفاء.
وبما أن حجم الهوَّة بين المعلمين والطلبة على صعيد التقنيات وإمكانية توظيفها في الفضاء التعليمي بشكل ذكي وجذَّاب يستقطب اهتمام المتعلمين ويجعلهم يعيشون في أجواء معرفية تفاعلية قريبة من اهتماماتهم، برزت «مدرسة كلية دبي الثانوية للبنات» التي تأسست في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 كواحدة من الإضاءات المدهشة في قطاع التعليم الثانوي، والتي توصف بأنها الأولى من نوعها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
انبثقت هذه المبادرة بدعم وتوجيهات من حكومة دبي ورؤية مؤسسات التعليم العالي الحكومية القاضية بأهمية إعداد وتأهيل الطلبة في أواخر المرحلة الثانوية لالتحاقهم بالجامعات، ودخول السنة الدراسية الأولى من التخصص مباشرة من دون إضاعة سنة من دراستهم الجامعية على مرحلة الإعداد التي تستنزف ما يقارب الثلث من ميزانيات التعليم العالي الذي يتم إنفاقه على تأهيل الطلبة من خريجي المرحلة الثانوية لولوج مرحلة التعليم الجامعي.
هي مدرسة وكلية في آن واحد، من حيث البيئة الأكاديمية والمناهج التعليمية الحديثة التي تمازج بين التعليم الإلكتروني المتطور والتعليم التقليدي وجهاً لوجه، وتهدف إلى تخريج كفاءات عالمية معتمدة بمنهجية قائمة على «الحرية الأكاديمية»، فالطالبات (المواطنات والوافدات) لسنَ مقيَّدات، إذ يدرسن في الوقت الذي يرغبن فيه بطريقة مرنة للغاية عن طريق الدخول على الموقع الإلكتروني المخصص لكل مادة دراسية مقررة والحصول على المادة العلمية المطلوبة، ولا تشترط الدراسة في حال تواجد الطالبة بالمدرسة؛ لأن هناك بعض المحاضرات القائمة عبر التقنيات الحديثة وفي ساعات محددة من المساء، وما على الطالبة سوى الإصغاء إلى الدروس عن طريق متابعة المحاضرات الدراسية التي يلقيها المعلمون من مختلف الدول مباشرة، والتواصل المباشر مع المعلمين والمشرفين على المواد الدراسية والمتواجدين خلف شاشات الحاسوب الآلي، وسهولة الحصول على إجابات للاستفسارات التي تتبادر إلى أذهان الطالبات.
تؤكد مديرة مدرسة دبي الثانوية للبنات مايا الهواري أن المدرسة عبارةٌ عن بيئة مصغَّرة للحياة الجامعية التي ستقبل عليها الطالبات بعد سنوات قليلة، واللافت في قولها أن ما يقارب 96 في المئة من خريجي الثانوية من مدارس الإمارات غير مستعدين بشكل كامل للالتحاق بالجامعة، وبالتالي يشكل هذا الرقم عبئاً مالياً كبيراً على ميزانية التعليم؛ لأنه يستنزف أموالاً طائلة لإعادة تأهيل هؤلاء الطلبة.
ومن جانب آخر ذي صلة مباشرة بواقع الميدان التعليمي، فإن النظام الأميركي المتبع في هذه المدرسة يراعي أنماط التعلم والفروق الفردية لمستويات الطلبة ونظم التقييم المتطورة، فبإمكان كل طالبة اجتياز الدروس المحددة في كل مادة بناء على استيعابها من دون انتظار زميلاتها في المادة نفسها.
ولضبط عملية التسيُّب ولسير العملية التعليمية وفق الجدول الزمني المقرّر له، فإن هناك حداً أدنى من الدروس يجب أن لا يتأخر عنه المتعلم، ولا يوجد سقف أعلى لكمية الدروس التي يجب أن يدرسها الطلبة والتي تتناسب مع ميولهم، والتخصصات التي يرغبون في الالتحاق بها في المستقبل، فهناك مواد إجبارية وأخرى اختيارية يدرسها الطلبة بما يتناسب مع قدراتهم العلمية، كما أن المنهج الدراسي المتبع بالمدرسة يجمع العديد من الطلبة من مختلف دول العالم عبر الأسئلة والمطارحات الطلابية التي تفتح لهم جسور التواصل والتخاطب مع ثقافات مختلفة، ما يكسبهم المزيد من الخبرات وتنمية الجوانب المعرفية المتصلة بأرقى صور التعلُّم التعاوني.
من المتوقع أن يتوسع المشروع كمياً بفتح فروع أخرى للمدرسة في المستقبل القريب، متطلعين كبحرينيين إلى الاستفادة من هذه التجربة الخليجية الرائدة.
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3760 - السبت 22 ديسمبر 2012م الموافق 08 صفر 1434هـ