تأملت البيت بجزع وانتابها حزن عميق... سقطت دمعة فاترة من عينيها، تطلعت في وجه ابنها تبدلت سعادته كربا، سألها: ما الذي يجري أمي... أدارت بوجهها نحو الفتاة في حيرة من أمرها سألتها أأنت حميدة؟!... أجابتها بجزع وخوف: وهل تعرفيني؟!
لحظات الماضي البعيد عادت كنار العتيد تقطع نياط قلبها، حينها كانت فتاة جميلة المحيا منفتحة على الحياة. تعيش في منزل والديها بسعادة وبهجة، لكن شيئا ما حصل خطف جزءا من تلك الأسرة، وغيّر نمط حياة الأسرة للأبد.
نظرت حميدة من نافذة دارها «تأملته بعمق» رقص قلبها تحركت مشاعر العشق بين ضلوع صدرها، تنفست بعمق، ابتسمت ولوحت له من بعيد... أجل انها عاشقة، بل مغرمة... ابتسم «علي» بسمة رضا ثم وضع يده على قلبه وتنفس بعمق وركب سيارته مغادرا بسرعة حتى لا يراه أحد... ضمت حميدة صورته بين صدرها وهي تتذكر كيف ولأول مرة التقت بهِ.
كانت تمر بأيام كبيرة أيام فقدت والدها كانت واضعة يديها على وجهها تخفي دموعها الغزيرة، اقترب وهو يقرب الماء على الطاولة، ويقول: لا شيء يستحق أن تبكي عليه في هذه الدنيا.
أزاحت يديها لتمقته وتطرده من أمامها، لكنها رأت فيه بسمة صادقه ونظرات حنونة ترأف على حالها وكأنها تعرفه منذ سنين مضت، فاكتفت برد بسيط قائلة: انه يستحق هذا، انه والدي لقد خطفه الموت فبقيت وحيده أصارع لحظات الفراق بدموعي هذه.
فاكتفى هو بنظرات رحيمة تبدلت مع مر السنين إلى نظرات عشقٍ ومحبة كبيرة وعظيمة، حتى تضرع إلى والدته لتخطب له تلك الفتاة التي خطفت لبه وقلبه. بعد سنين من العذاب قربت نار الشوق أن تنطفئ...
دبرت حميدة موعداً لأن يأتي علي مع والدته ليخبطها من منزل أهلها... استجمعت قواها حميدة وهي تنتظر بشغف صوت الهاتف ليخبرها بقدومه وأمه إلى دارهم... رن الهاتف فرفعته بسعادة... هل وصلتم؟
- أجاب صوت علي بربكة وخوف، هلا أتيتني في الخارج؟
- تملكها خوف شديد وهي تجيبها: نعم أنا... هل أخبرك علي عني؟
- لطمت أم علي بحرقه على خديها، يا الهي أتيت لأخطب لك أختي؟!
- أجاب علي أمه بخوف ودموعه تغرق عينيه: ما بالكِ أمي ما الذي تقولينه انها حميدة... تأملها بجزع سكنته مشاعر الحب نحوها.
- أم علي: انها أختي حميدة يا ربي كبرت لا أصدق ذلك.
- حميدة: أختي؟! ما الذي تقولينه ما الذي تقوله يا علي؟!
- أجابت أم علي برجاء: ألا تذكريني أنا آمنة أختك، يا ربي كان عمرك 7 سنين لابد أنك تذكرين ذلك.
- حميدة... بعد أن تجمد الدم في وجهها وكأنما الدنيا تحوّلت إلى دوامة تدور بشدة أجابت في جزع وكسرة نفس: أنا أذكرك.
فعادت الذكريات كالعاصفة دمرت السكون في قلبها وفاض بحر عينها بدموع يوم الذي عصت آمنة والدها وتزوجت الولد الذي عشقته بقوة، كان ينتظرها أمام المدرسة كل يوم تذهب معه لتروي ظمأها من العطف والحنان، انها عطشة، والدها القاسي لا يرويها إلا قسوته وجبروته فهو مسيطر على جميع أفراد العائلة لا يعصى أحدهم له أمرا. هربت معه إلى عالم بعيد رأت فيه قيمة نفسها، لكن عالمها الجديد استحوذ عليها فأخفت حقيقتها عن أولادها فنشأوا لا يعرفون بوجود أقارب لديهم.
أرادت أن تحميهم من ماضيها وتشبعهم حنانا وانفتاحا في الحياة، لكن ماضيها طاردها وألقى القبض عليها تحت منطلق ثورتها... ماضيها الذي أخفته وحمت أولادها منه عاد إليها وقتلها في ابنها.
أغلقت حميدة باب غرفتها وهي تودع حبا عميقا وإخلاصا خطفه منها ماضي عائلتها، دفنت رأسها بين ذراعيها وهي تطرد شبح أختها من أمام عينيها... صمت على صمت طويل ودّعا معه مشاعر قلبه المحروقة... خالتي... انها عشيقتي انها خالتي.
استسلمت آمنة لقدرها المحتوم، سألت نفسها بحرقة من هو المسئول، أنا من دمرت ابني، أم أبي الذي لا أخلف عنه شيئا، الذي دمرني بقسوته دمر ابنته «آمنه»؟!
حواء الأزداني
حين يبدأ الطالب حياته الجامعية وتلمس أولى خطواته حرم الجامعة... ليلفه بهوها، ضجيجها، حركتها الديناميكية التي لا تتوقف ويتسلم خطة دراسته يشعر حينها أنه في عالم كبير وأنه قد قطع الكثير وأصبح أنفه في مستوى القمة المنشودة.
وبعد أن تمضي الأيام ويبهت بريق الحياة الجديدة... نكتشف أن الحياة الجامعية تسرق من عمرنا الكثير وتمتص طاقة كُبرى فتأخذ منا أكثر مما تعطينا... فالوقت الذي نقضيه في انتظار صفوفنا والتفكير والتخطيط والتنسيق للخطة الدراسية والانشغال بالقرارات الجديدة والمهمات اليومية الآنية والمسافات والأعمال الجامعية الروتينية يناهز الوقت الذي يلمع به عقلنا بفكرة جديدة ومعلومة مفيدة من إحدى المحاضرات.
نعم نحن نستفيد لا شعورياً وتنضج شخصياتنا وتتهيأ للحياة العملية بشكل بديهي مع استغراقنا في دراسة التخصص لكن – برأيي – أن الدراسة الجامعية ما هي إلا مجرد مفاتيح نحن من نبحث لها عن بوابة تناسبنا... وقد تكون صمّاء نطرق بها كثيراً من الأبواب بلا جدوى.
فالنجاح في بوابة العمل وميدان الحياة مرتبط بنا نحن لا بما نحمل من شهادات ولا بالوقت الذي استنزفناه في الحصول عليه فالآلاف يحملون شهادات عالية ويعيشون معيشة الأميين لأنهم تعاملوا مع الشهادة الجامعية كهدف نهائي وتعلقوا به كمخلص ومنقذ لكنها فعلياً وسيلة لهدف أوسع بكثير وليست غاية بحد ذاتها، لذلك فالشهادة لا تضيف لنا بل نحن من يضيف لها اسماً حملها فأجاد استغلالها وعبورها للدرب القادم.
عندما انتخب في الكونغرس، وصف «لنكولن» تعليمه في السجلات الرسمية في واشنطن، بصفة واحدة بأنه: «ناقص». فقد ذهب إلى المدرسة أقل من أثني عشر عاماً في حياته وكان أساتذته متجولين يقايضون المثقفين الراغبين باستبدال اللحوم والذرة بالتعليم.
هو الطموح الذي يقف بوجه الاكتفاء العاجز وعدم الزهو بالقليل والتعلل بالظروف القاهرة يفتح للإنسان دروباً أخرى، وآفاقاً ممتدة للعلياء، ويجعل «لنكولن» الذي كان يدعى بالأخرق! واعتاد أن يجني الذرة ويذبح الخنزير مقابل 13 سنتاً في اليوم، يلقي أروع الخطب الخالدة في حياة البشرية وتوضع في مكتبة أكسفورد منقوشة على قطعة من البرونز!
فلنبني أنفسنا بأيدينا ولا نسلم عقولنا للحشو والتلقين والأوامر ولا ندع ثقافتنا ومهاراتنا محصورة في 50 دقيقة... العالم كله بين أيدينا نستطيع أن نجوب التاريخ بكبسة زر! ونسافر عبر المحيطات بكبسة أخرى... فلماذا نحجز عقولنا بمساحة الجامعة... ومعرفتنا بحدود محاضرة أو اثنتين؟.
ظل: «ما يحزنني حين أكون موجوداً في مكتبة هو أن الحياة قصيرة جداً ولا أمل لي بقراءة الماضي الممدود أمامي»... جونب برايت.
نور عقيل الغسرة
أيها اليتمُ الذي مازالَ
في أجسادنا محفورُ
يا سنا العزّ لكَ اشتاق
الجوى والنصرُ والتّكبيرُ
قمْ فداكَ الروحِ لا أعياكَ
عذر لا ولا معذورُ
يا أبا الشعبِ إلى عينيكَ
تاه الشعرُ والتعبيرُ
وإلى محرابِك القُدسي
تاقَ الوجعُ المنحورُ
آهِ يا (ديسمبرَ) الحزنِ هنا
السورُ هنا (الجمري) والتأثير
خفّف الوطأَ فهذا البارقُ
الملهمُ والنيّر والمنصورُ
ها هي الأيامُ تطوى بيننا
ورفاةٌ هالهُ التصويرُ
موكبٌ فيه الحنايا وَجِلت
وتعالى النوحُ والتزفيرُ
نم قرير العينِ يا عينَ الرضا
في فؤاد تربه التقديرُ
أبوأحمد
العدد 3758 - الخميس 20 ديسمبر 2012م الموافق 06 صفر 1434هـ