العدد 3757 - الأربعاء 19 ديسمبر 2012م الموافق 05 صفر 1434هـ

«حدود العقل» عند العقلاء

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في أحيان كثيرة، ينسى الواحد منا نفسه، فلا يرى لها حدوداً ينتهي بها ولها! فليست جغرافيا البلدان فقط هي التي لها حدود، نحن البشر أيضاً لنا حدود. حدودٌ تؤطر أطرافنا العاملة والمتحركة كلٌ في مجاله. فرؤيتنا للأشياء بأبصارنا لها حدود، وسمعنا له حدود، وقوتنا العضلية لها حدود. بل وحواسنا لها حدود أيضاً، وإن بتفاوت يعلو ويهبط بالتباين بين الأفراد.

أيضاً، هناك حدود لتفكيرنا. بمعنى، أن تفكيرنا في محيطنا والمعطيات التي نتلقاها بين الفينة والأخرى له حدود، أو لنقل له قاعدة «تبدُّل» في منسوب الخطأ والصواب، أو إعادة النظر في الكثير من الأشياء التي كنا نعتقد ونؤمن بها، ليس لأننا متقافزون، بل لأن منسوب التفكير نسبيٌ، وبالتالي، نخطُّ سطراً ثم نمحوه، لنكتب ما بتنا نعتقد أنه الأصوب من سابقه وهكذا.

هذا الأمر، ليس حكراً على الأفراد العاديين أمثالنا، بل هو ينسحب على الجميع وبدون استثناء. حتى فقهاء الدين، لطالما تغيَّرت فتاواهم الدينية، عندما يستجد أمامهم ما كانوا يجهلونه من أمور، أو تقادم بهم العمر، فأصبحت «الزمكانية» هي التي تحكم ما يفتون به. ذات الأمر ينطبق على الفلاسفة، وأصحاب المال في صفقاتهم ومعاملاتهم التجارية، وأيضاً على حكَّام البلدان والرؤساء أينما كانوا وهم الأهم بين كل ما ذكرت، لكونهم يتسيَّدون على أمةٍ بكاملها.

فالحاكم الحصيف، يُمطط صدره (وجوباً) كي لا تتكلس لديه آلة رئاسته للعباد. لكن ذلك الحاكم أيضاً، مُطَالَبٌ أبعد من ذلك، وهو أن يفتح عقله بين كل حقبةٍ من حقب الأزمنة المتوالية، لمراجعة ما آمن واعتقد وأمرَ به. فما واءم البلد والناس قبل عشرين سنة، قد لا يوائمهما في هذا العصر. بل الأكثر من ذلك، فإن القرارات التي تتخذ يمكن مراجعتها حتى بعد أيام من صدورها، إن كانت لا تتناسب ولا تتفق مع موضوعها الذي جُعِلَت له. وأحياناً قد تتعارض معها أصلاً.

عندما كان أحد الفلاسفة يقول «الخارطة ليست هي الميدان»، كان يعي ما يقول. فالقرار الذي يتم إصداره، أو السياسة التي يتم تطبيقها، هما أمران تمَّ وضعهما بناءً على معطيات نظرية، لكن ليس بالضرورة أن يستجيب المحيط لها، لأنه محيط متفاعل، ومؤثر ومتأثر بشكل لحظي ودائم، ومن الممكن أن تكون استجابته قشرية، في حين يبقى باطنه غير مستجيب لهما بالمطلق.

من حسن حظنا، أننا جميعاً دروسٌ لبعضنا. لذا قيل: «السعيد مَنْ اتعظ بغيره». فخبرتنا في الحياة، هي مجموعة من الأخطاء التي ارتكبناها، أو ارتكبها غيرنا، فصرنا نحاذر على هذا أو ذاك من خلالها. بعض تلك الأخطاء كانت صغيرة، وبعضها كان كبيراً بحجم ضياع شعبٍ وأمةٍ بكاملها. وما بين الخطأين هناك من يستفيد منها كلٌ بظرفه وحجم مشكلته.

سياسات عديدة، انتهجها حكام دولٍ فلم تجلب لهم ما كانوا يرومونه من نتائج. بل الأكثر من ذلك، هناك سياساتٌ اتبعها حكام وزعماء، فلم تجلب لهم ولشعوبهم سوى الدمار والتخلف. وهنا نتساءل افتراضاً: ماذا لو عاد الزمن بـ بول بوت، فهل يا ترى سيقوم بالسياسات ذاتها التي اتخذها في كمبوديا، ليموت بسببها ملايين المدنيين ظلماً؟ وماذا لو عاد الزمن بالرئيس جونسون، فهل سيأمر بشن غارات جوية على فيتنام الشمالية؟ وكذلك الحال بالنسبة لمن أتوا بعده من رؤساء للبيت الأبيض، حيث تورَّطت الولايات المتحدة الأميركية في أكثر حروبها فشلاً وخيبة.

هناك العشرات من الزعماء والقادة، الذين أجرموا في حق شعوبهم، وفي حق أنفسهم حتى، فذكرهم التاريخ على أنهم مجرمون وأعداء وساديُّون، تُتَداوَل أسماؤهم وأفعالهم في كتب التدوين والتندُّر. بعضهم لم يأمر بشن حرب غبية وعبثية ضد دولة جارة، لكنه اتبع سياسات مجنونة داخل وطنه، بحِسّ الغرور، والاستعلاء. والسبب، أنه لم يكن يؤمن بنسبيَّة عقله وحدوده، وبالتالي أصبح لا يؤمن بهامش الخطأ، ولا احتماله حتى، كونه عقلاً مطلقاً وسيِّداً وقيِّماً.

وبعكس هؤلاء، فقد وُجِدَ مِنْ الزعماء، مَنْ اعتمد في حكمه على «نسبية» عقله ومداركه، فارتكز في تسيير شئون الدولة والتعامل مع الحركة الإنسانية والاجتماعية على مفهوم «النقاش العام» الذي بات يعتبر من أهم أبنية الفكر الحديثة، سواءً داخل الدول أو المجتمعات. حكامٌ يؤمنون بالحلول الجماعية، ويرفضون سياسات القوة، ويؤمنون بترسيخ النقاش وتبادل الآراء، للوصول إلى قواسم مشتركة، وفتح قنوات تواصل نشِطَة، بعيداً عن التشنجات والخصومات والعداوات.

هذا السلوك السياسي ليس مهماً فقط في مراجعة المواقف والقرارات المتخَذَة، بل هو يُبدد أية مخاوف فردية أو جماعية لدى الشعوب. ويساعد على خلق مراوح تهوية وتنفيس داخل الدولة والمجتمع، بحيث يرى الفرد نفسه، أن صوته يصل، وأن فكرته تتم مناقشتها وتصويبها أو الأخذ بها أو ردّها علمياً، دون تجاهل. هذه المساحة من النقاش والإيمان بنِسبيَّة السلطة لا يظهر أثرها على ساعة الزمن التي نحن فيها بالضرورة، ولكنها تدفع باتجاه مستقبل آمن ومتصالح مع ذاته وتاريخه وواقعه. وربما كانت الدول المتقدمة هي الأكثر جلاءً في هذا الشأن. هذه هي الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع. فبلا حدود لعقولنا وقدراتنا يعني الولوج في الوهم والخطأ.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3757 - الأربعاء 19 ديسمبر 2012م الموافق 05 صفر 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 5:59 ص

      علي نور

      كالعادة يا استاذ محمد تضرب مقالاتك في اقصى مشارق الاأرض وادنى مغاربها حتى ادا دنت من واقعنا تراها بعيده كل البعد عنه وهي اقرب الى الخيال منها الى واقع نعيشه او نتلمسه ، لا ندري اهي مقالات ادبيه ام هي مقالات صحفيه ام هجين بين هجينين ؟ يقراها الانسان العادي فيحتاج الى عدسة مكبرة كي تتوضح معاني مقال سمته الاساسية الاغراق في التراكيب اللغوية ، فادا ما وضحت الكلمة للمتلقي ضاعت الفكرة .. هكد هم كتابنا .. لاعبون متمرسون في الكلمة .

    • زائر 1 | 2:37 ص

      العقل

      لو توقف الناس عند حدود ما يجهلون لما وصل الحال بنا الى التشرذم وتشتت الامة...وشكر خاص للكاتب المبدع حقاً في معظم المقالات وأنتقاء الكلمات..

اقرأ ايضاً