العدد 3754 - الأحد 16 ديسمبر 2012م الموافق 02 صفر 1434هـ

فائض «الأبطال» والشهداء الذين يعانون رهاب الانسجام مع الخلل

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

تضع الأوطان طوابير من الشهداء على قائمة الدور الطبيعي لحركة الصراع على الأرض؛ ليس لأنها تعاني فائضاً من السكّان؛ وتريد التخلّص من جزء منه؛ ولكنها تعاني من ندرة قيمة ومعنى يفرضان عليها، ويتمّ تعميمهما في صور تهميش وسلب حقوق وتلاعب بالمصائر، وقيام مشروعات ومخططات تهندس وتعمل بشكل منظم لإقصاء واستهداف إنسانها وحتى تصفيته. تلك الندرة في الاعتراف بالحقوق وممارستها على الأرض هي التي تدفع ما يفسّر بالفائض إلى تلمّس طرق خلاصه. الشهداء في الصدارة. بعض أولئك في أول أمرهم كانوا منشغلين بأمورهم وتفاصيلهم البسيطة. كانوا معنيين بالحياة في أدنى شروطها وما يتبقى يتم السهر عليه في صور غصص وعذابات وحسرات. الاستبداد هو الذي يفرّخ شهداء حقيقيين لأنهم في الصميم من مواجهته. لا تحتاج أن تكون على جبهة وأمام عدو تاريخي وصريح لتكون شهيداً. الشهداء في داخل الأوطان اليوم يتجاوزون في إحصاءاتهم شهداء المواجهات المباشرة في الحروب. وفي الداخل ليس بالضرورة أن تكون مواجهة بمعنى التماس فيها وجهاً لوجه. قد تأتي في صور تعرية أشدّ إيلاماً وأثراً.

انتهى عصر الحروب مع أعداء صريحين ومعروفين. الحروب تلك تم تعليقها أو نسيانها؛ لأن كلفتها أكثر من عالية بالنسبة إلى الممسكين بالأمر الواقع في الأوطان، ولا جدوى منها. مرحلة السلام غير المُعلن ومن وراء حجاب وأستار، من دون الرجوع إلى الطرف المعنيّ بأي حال من حالات التعايش أو نقيضها مع العالم أو المحيط (المواطن)، فتحت الطريق أمام استبداد داخلي مضاعف وصريح، صار فيه الشهداء نتاجاً وصناعة محلية وعلى أيدي أنظمة من المفترض بها أن تكون حارسة على حقوق الناس وحيواتهم في الوقت نفسه، فيما تدفع بهم دفعاً باستحكام اليأس إلى الجرأة على الاستحكامات والمتاريس والأجهزة القابضة على أنفاس الناس.

الأوطان والشعوب ليست طارئة كي تبحث عمّا يعمّق أهمّيتها ويلفت الانتباه إليها. هي الأصل من العمق. ما يحدث هو أن تختطف جهة أو جهات الدور كله. تمارس دور الشاهد على ما تريد رؤيته، وتقرر ما يصلح ويفسد، فيما هي تعاني من انعدام أهلية تقرير ذلك حتى للأشياء في كثير من الأحيان.

يشعر كثيرون باحتباس في التنفس، واضطراب في المعدة حين ترد مفردة الشهداء. من تسميتهم، هم أصل الحضور وتعاطيهم معه وتقصّيهم لتجاوزات الواقع؛ ما يدفعهم إلى أن يكونوا من سكّان العالم الآخر. ذلك الاحتباس والحساسية المفرطة التي يشعر بها البعض من ورود مفردة الشهداء سببها إما أن يكونوا طرفاً في تقرير ذلك الإرسال إلى العالم الآخر لما يمثله ذلك من مأزق وعبء على حضورهم المتخلخل وغير المستقر؛ وإما أن الشهداء أبطال؛ لكن فائضاً من ذلك المفهوم والمسمّى يُراد له أن يكون برعاية رسمية عربية خصوصاً.

دولنا العربية اليوم هي من تحدّد مواصفات وملامح ولون بشَرَة واتساع عين ومنكبيْ الأبطال. حتى لو كانوا ضمن تصنيف الذين يعانون من سوء التغذية! الأبطال بمواصفات دولنا تحت الطلب وبحسب مؤشرات الولاء. والشهداء كذلك، ولن نحتاج إلى أدلّة شاهرة إضباراتها من الماء إلى الماء. فائض من الأبطال في كل سيرة ذاتية سنوية يتم تقديمها للرأي العام الذي يُعتز به ويُعتبر رأيه. الذين هم في الاتجاه المعاكس، عار على الاعتزاز والاعتبار.

«الأبطال» بمواصفات دول بتلك العيّنة والخصوصية لا يحتاجون إلى خوض حروب والدخول في مواجهات، كما أسلفت، ولا يحتاجون إلى امتلاك شجاعة استثنائية تظل حاضرة ومهيمنة على الزمن حتى بعد رحيلهم بقدر ما هي مواصفات الإذعان والتسيير والتبعية واختطاف الخيار.

الأبطال الطارئون والوهميون والذين تصنعهم الأزمات المفتعلة لا لزوم لهم. إنهم يصنعون جُبْن اللحظات، واحتقان الدم في شرايين الزمن. إنهم احتباس الإرادات والخيارات في أن تصنع إنجازاتها وقفزاتها وقدرتها على الفعل الفارق.

الذين صنعوا وراكموا كل مآسي الأمة اليوم هم نتاج بطولات هبطت بمظلات؛ أو على متن دبّابة أو انقلاب طُبخ على نار أكثر من هادئة، وأحياناً من دون اللجوء إلى الطبخ. بطولات تأتي هكذا تحت عناوين ومسمّيات الضرورة.

فائض من «الأبطال» الذين يعانون من البطالة. أبطال الفراغ وندرة المواجهات واختزال كل إنجاز البشر في سِيَرهم الذاتية التي لها بدايات ويُراد لها أن تكون من دون نهايات.

يُراد للأبطال الاصطناعيين أن يكونوا بريئين ونموذجاً يُحتذى. إنهم صناعة الوقت واللحظة والحاجة والفراغ أيضاً. ويراد للشهداء أن يكونوا على النقيض من ذلك. أن يكونوا متمرّدين على استقرار المكان وطمأنينة الزمان. المكان والزمان اللذان هما في عهدة من لا يعنيه إلا مكانه وزمانه!

كأنّ الأبطال يهبطون بمظلات. كأن الشهداء يأتون من العدم في تقسيم عجيب غريب يخضع لمؤشرات لا يراها إلا الراسخون في علم المزاج والتمييز والوهم في كثير من الأحيان!

بين الأمم جميعها التي لديها فائض أبطال لا تدري من أين يطلعون أو يتناسلون. أبطال لا بطولات يمكن تسجيلها لهم؛ وخصوصاً في شيوع انتهاب البديهي من حقوق الذين يتم فرْض الأبطال عليهم. وبين الأمم جميعها في الوقت نفسه التي لديها فائض من الشهداء المحليين، ضمن صناعة واقع لا يقبل القسمة على اثنين. واقع لشخص واحد هو «البطل» المهيمن على أنفاس الناس، والمتصدّر والمتحكّم في مصائرهم. شهداء لا تتاح لهم فرصة أن يلتقوا في مواجهة مع أعداء أوطانهم، قبل أن يكونوا أعداءهم، ولكن تتاح لهم فرص لا حصر لها كي يكونوا شهداء في الداخل بما يرفعونه من يافطات ومطالب تشكّل إهانات لـ «الأبطال» أولئك.

الذاكرة الإنسانية لا يمكن التلاعب بها أو الالتفاف أو التحايل عليها أيضاً. تظل تحتفظ بمنقذ زمانها ومكانها. تميّز الطيب من الخبيث من «الأبطال»، وتعتمد الشهداء الذين لم يقبضوا ثمن ذهابهم إلى الحتف في أي صورة من الصور.

الذاكرة تميّز أبطالها الحقيقيين وشهداءها المتبرئين من العدم. ثمّة صُنّاع للزمن من دون قسْر للقيام بالدور، وثمة من يربك ذلك الزمن بفرْض بطولاته فرْضاً من دون أي اثر يدلّ على تلك البطولات سوى التسطير الذي يحتل السِيَر الذاتية، تلك التي لا حقَّ لأحد فحص أو مراجعة الحقيقي منها أو الزائف.

وفي تصنيف يتم اجتراحه أيضاً، طيبون أولئك «الأبطال»، ودودون أمام الشاشات. الشهداء يعانون من رهاب الانسجام مع الخلل. من مواصفات إنسان اليوم أن يكون منسجماً بشكل يُراد له أن يكون فطرياً مع كل خلل. حين يحدث خلاف ذلك، تُضطر الأوطان إلى تجنيد شهداء كي يختطف الدورَ «أبطال» كان دورهم التفرُّج على ما يحدث؛ إن لم يكن الدفع بقيامات أولئك الشهداء.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3754 - الأحد 16 ديسمبر 2012م الموافق 02 صفر 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً