في الغربة يستشعر المرء مقدار عشقه لوطنه، وهو الذي لا ينساه. فما إن يختم موظف الجوازات ختم مغادرة الأرض، حتى تبدأ الحكاية مع الذاكرة التي تكون سيدة الموقف وسيدة الوقت.
الذاكرة التي لا تهدأ مع كل صورة شبيهة بمكانٍ ما، كانت له مع العين قصة في الوطن، مع كل كلمةٍ تعبق بلهجة الوطن الدارجة حتى وإن كانت مضللةً بمسافةٍ طويلةٍ تجعلها غير واضحة المعالم، ذاكرةٌ ترسم صوراً لملامح لم تَخُنْ أرضاً أنجبتها حتى تكاد تتعرف على كل مغتربٍ من جنسيتها بفضل ملامحه.
في الغربة التي تفصل الجسد عن جغرافيا الوطن، تحلق الروح على أرضه فلا تطال روحك ولا تعرف جسدك؛ لأنهما بعيدان عن مكان وجودهما الفعلي.
إن للأوطان قدرة غريبة هائلة على تصدير الحنين. الحنين إلى كل بقعة من أرضها. الحنين إلى قرب الساكنين في القلوب. الحنين إلى وجوه المارة وحتى وجوه الباعة المتجولين وأصوات عرباتهم القديمة التي تنصت لها الريح قبل أصوات أصحابها وهم يرددون: سمك... روبيان!
يعود السؤال يفرض نفسه مدوياً: ما الذي تفعله الأوطان لتكون بهذه البراعة في جذبنا لمحبتها وعشق ترابها؟!
تتفنن في الاستيلاء على كل وجداننا استيلاءً لا نرفضه بل نذهب معه طواعية ليتعمق ويتجذر ويصل بنا إلى أقصى درجات الاستعمار.
فما الذي في الوطن وحده وليس في غيره ليفعل بنا كل هذا؟!
الوطن الذي قد يخلف غربة أخرى ونحن على أرضه، تلك الغربة التي يشعر بها المرء حين لا ينتظره أحد إلا الغرباء الذين منحهم الوطن هويته في غفلة من التاريخ...
غربة متمردة على الغربة نفسها، تلك الغربة التي تنبع من الداخل وتطفح على الروح قبل الوجه والجسد... حين يشاهد الغريب نفسه غريباً في وطنه الذي تنكَّر لأبنائه ومنح الآخرين حضنه وأرضه وماءه وسماءه...!
غربة لا تشبه الغربة... لأنها أقسى على الوحيد حين يحسبه الآخرون في وطنه وبين أهله وهو في داخله وحده بلا وطن ولا أهل...
وبالعودة للحنين الذي تخلفه الأوطان، فهناك من يشعر به حين يكون بعيداً وهناك من يعيشه وهو بالداخل، يتنفسه في مخيلته لأن الواقع ضن عليه بوطن يحتضنه ويأويه كما تفعل أراضي الله التي لم يخربها الطغاة، الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3752 - الجمعة 14 ديسمبر 2012م الموافق 30 محرم 1434هـ
الله يا هالوطن
شكرا يا سوسن، تذكرت أغنية فؤاد سالم الله يا هالوطن شمسوي بيّه الله