تسمَّرت قبل أيام، وأنا أقرأ مذكرات أحد السياسيين العرب. لم يكن في تلك المذكرات أكثر مما فيها من معلومات ومشاهدات ووقائع، سجَّلها صاحبها كما قال: «أمانة للتاريخ»، لكنها أيضاً (أي تلك المذكرات)، لم تخرج عن سياق أخلاقي، دَرَجَ على تثبيته العديد من المستنطَقيْن، من السياسيين بشتى مشاربهم ومِلَلِهِم ونِحَلِهِم، وهو «تصفير أخطائهم» عبر تلك الصفحات.
مع شديد الأسف، فإن كثيرين يعتقدون، أن لحظة التدوين لمشوار حياتهم السياسية والاجتماعية، هي بمثابة «التقاعد المريح للضمير»، الذي يعني تنقية ذلك المشوار من الشوائب والزلات والمثالب، وجعله سياقاً تطهُّرياً، مليئاً بالإنجازات النابليونية، والنصائح الأفلاطونية، التي قدموها لعقول أقلّ منهم شأناً، والانسحابات المُشرِّفة التي قاموا بها من صروح لم تفهمهم ولم تقدِّرهم، والمواقف التي اتخذوها وسَبَقَت قراءتهم لها مَنْ هم في السَّلَف والخلف بالسواء، وبالتالي يصح عليهم ما قاله أحد الحكماء، أنهم بشرٌ «أنسَوا مَنْ قبلهم وأتعبوا مَنْ بعدهم»!.
قد يستطيع أيُّ أحدٍ (وبلا ضوابط أخلاقية) أن يكتب عن نفسه أشياء جيدة، ويُسقط من أفعاله الغَّث، ومن كلامه الهُجْنة، ليظهر بطلاً شريفاً نقياً سوياً، لكنه لا يعلم، أن ما يفعله هو تعويض لنقص ذاتي في نفسه يريد أن يملأه لا أكثر، وفقأٌ لأعين قد تنظر لأوزاره وموبقاته. لقد نسِيَ هذا أنه ومثلما ادعى الشهادة على زمانه بالطريقة التي أرادها هو لنفسه، فإن هناك المئات غيره مِمَّن شهدوا فيها عليه وعلى حقبته، بغير ما دوَّنه ونسَبه إليها ولنفسه. فشكل التاريخ لا يحدده قلمٌ واحدٌ، مادام فضاؤه يسع لأكثر من يراع، ولأكثر من عينيْن باصرتيْن.
عندما قال الأديب الألماني السويسري هرمان هسه: «دون كلمات أو كتابة أو كتب لم يكن ليوجد شيء اسمه تاريخ، ولم يكن ليوجد مبدأ الإنسانية» كان يعني ما يقول. فارتباط التاريخ بمبدأ الإنسانية له دلالة كبيرة؛ فالارتباط بين الأمرين، ارتباط عضوي، لا براغماتي تحايلي. فالإنسانية لا يخدمها تاريخ أعوج، خَطَّته أقلامٌ مُحرِّفة، همّها همٌّ خاص وذاتي، بل تخدمه أقلام، تقول ما جرى، لكي يستفيد اللاحقون من تجارب السابقين، وهو حقيقة التكامل السليم والواجب بين الحقب.
من غير المعقول، أن يكون هذا الإنسان «النسبي» في فكره وقوله وعمله وكيانه كله، حالة قصوى من الصفاء والنقاء، والعمل بلا أخطاء، لأن ذلك مخالفٌ لأصل نسبيته ولمنطقها المتسَالَم عليه. وبالتالي، لا يستقيم المطلق من الأفعال والأقوال والأفكار مع قدرته المحدودة. والأكثر عجباً، أنه يُظهر الآخرين، من ذوي الحِجَا وحصافة الرأي على أنهم ناقصو عقل ودين وخلق وأفق، في سبيل «فقط» أن يُسجِّل هو لنفسه علواً وهمياً في قرطاس أصفر، يذوب ويتحلل في ماء الحقيقة الزلال.
علمتنا الحياة، أننا نبقي على مبادئنا، لكننا نستبدل أفكارنا وقراءتنا للأمور بين الفينة والفينة، وما بين الفينتيْن، كنا ضمن حسابات وتصورات وآفاق مختلفة، وبالتالي، فإن هذا المقدار من التبدُّل، حريٌّ أن يجعلنا نسَلِّم، أننا وقعنا في أخطاء ولو صغيرة. هذه المساحة من الصراع، أو حوار الروح من خلال التفكير، تجعلنا نقر بما كنا فيه كما هو، ومن دون خجل، لأنه في الأصل، جزء من حركة الحياة ومراكمة الخبرة، التي هي الاسم الذي نصف به أخطاءنا كما قال أوسكار وايلد.
عندما نقرأ ما كتبه جوزيف لوكلير حول السجالات التي كانت تجري في كنائس أوروبا، وما نقله المتساجلون عن أنفسهم لاحقاً، يتبيَّن لنا كيف كان الحرص على أمانة التاريخ. جان غروبر ويواكيم الثاني وألبير البراندبورغي، كلهم كانوا في أتون حياة صعبة، يصبغها الدم والاقتتال نتيجة الصراعات الدينية، لكنهم لم يتنكروا لأفعالهم ولا لآرائهم، عندما حان وقت التدوين كما حصل مع الأول. ليس ذلك فحسب، بل سَرَى ذلك على كثيرين ممَّن عاشوا أحلك الحقب التاريخية وأكثرها مرارة، وليس كحياة بعضنا ممن كانت أيامهم سهلة ممكنة بالمقارنة مع غيرها.
المشكلة، أننا نعيش في عالم ثالث، هو الأكثر قرباً للافتتان. فالمساحة السياسية في عالمنا العربي مازالت مضطربة، والفهم للدين مازال أولياً، وممزوجاً بسياسات انتهازية، والثقافة مازالت محكومة بعقل الشرق الروحي، والعلاقات الاجتماعية مازالت محكومة بصور عرقيَّة ومذهبية وايديولوجية. وعلى رغم كل ذلك التعقيد والتداخل، ترى العديد من السياسيين العرب يُبيِّضون مسلكهم السياسي عندما يبدأون في تدوينه، وكأنهم يُبيِّضون أموالاً سوداء، في مشاريع خيرية.
الغريب، أن سياسياً عربياً يأتي ويقول عن نفسه من المديح والتنزيه وكأنه مَلَكٌ يتسربل قميصاً أبيض، ثم يأتي آخر من الحقبة والمكان ذاتهما، ويفعل الفعل ذاته، ويأتي ثالث ورابع وخامس حتى ينقطع النفس، ليقولوا ما قاله سلفهم! إذًا مَنْ قام بالأخطاء السياسية، وأمر بالقرارات الظالمة، وخاط التحالفات البائسة؟! ومَنْ هو المسئول عمّا جرى في هذا البلد أو ذاك من مآسٍ يندى لها الجبين، إذا كان الجميع أصحاب أيادٍ بيضاء، وعقول راجحة وأوامر صائبة؟.
لقد صَدَقَ الشاعر الإنجليزي جوزيف أديسون عندما قال: «الانضباط الذاتي، مثله مثل الفضيلة، هو ما يرفع شخصاً عن آخر بحق». وعلى مُبيِّضِي مشوارهم السياسي أن يعوا معنى الانضباط والأمانة جيداً.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3750 - الأربعاء 12 ديسمبر 2012م الموافق 28 محرم 1434هـ
خروتشوف وستالين
كتبتم منذ فترة بعيدة انه وعندما قام خروتشوف بشتم عهد ستالين امام الحزب الشيوعي السوفيتي قال له رجل: أين كنت عندما كنت نائبا لستالين ؟؟ قصة معبرة تلامس ما قلته في هذا الموضوع
دجل سياسى
حتى الراقصات لم يستطيعوا تبييض سيرتهم مثل اشباه السياسيين فى مدكراتهم
النقص والنقص والنقص
لولا نقص أنفسهم ما احتاجوا الى هذا التزييف