في الأسبوع الماضي، وتزامناً مع اليوم العالمي للمعاقين وصلتني رسالة عبر البريد الإلكتروني من كاتبة وتربوية بحرينية عن أبرز الإنجازات العالمية التي تحققت على هذا الصعيد، فكان المانشيت العريض للكاتبة، كاثرين ماكونل، في مقال لها بتاريخ (28 نوفمبر/تشرين الثاني 2012) على الموقع الإلكتروني التابع لمكتب وزارة الخارجية الأميركية، تحت عنوان: «رجل ضرير منتخب في مجلس تشريعي يعتبر أن التعليم هو مفتاح النجاح».
من المقرَّر أن يدخل الشاب الضرير سيروس حبيب (وهو أول أميركي من أصول إيرانية) في 12 يناير/كانون الثاني من العام الجديد 2013 الكونغرس الأميركي عن ولاية واشنطن. وفوز سيروس في الانتخابات التشريعية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي جاء تزامناً مع إعادة انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة.
فبحجم المعاناة وتصالح الإنسان مع ذاته يكون التميُّز عنواناً بارزاً في شخصية مثل سيروس البالغ من العمر 31 عاماً، الذي فقد بصره في إحدى عينيه نتيجة إصابته بنوع نادر من السرطان وهو طفل صغير، وتعرّضه وهو في الثامنة لنوبة أخرى من السرطان أفقدته بصره بالكامل.
وُلد سيروس لأبوين جامعيين، ومنذ وقت مبكر اشتغل بالعمل الحقوقي؛ لتتوافر لجميع الطلبة في ولاية واشنطن فرصة الحصول على التعليم الجيد واكتساب مهارات العمل التي يحتاجون إليها للتنافس في سوق العمل العالمية ذات القدرة التنافسية العالية.
يرسم لنا سيروس مستقبل التعليم بذهنية كونية قائلاً:»إن أكبر التحديات التي نواجهها تتمثل في بناء نظام تعليمي ملائم للقرن الحادي والعشرين يضمن بأن يتمكن كل طفل من تحقيق إمكاناته الكاملة، فالتعليم مهم، بدءاً من سنوات الحياة الأولى، عندما تتطور المهارات المعرفية، وحتى الوصول إلى التعليم الجامعي».
انفتح سيروس على مكاتب الخدمات الإنسانية في ولاية واشنطن التي أتاحت له الفرصة لتعلُّم استخدام عصا المكفوف ونظام القراءة بطريقة برايل والكمبيوتر المزود ببرنامج معدل للمكفوفين. ويعبِّر سيروس عن تجربته التعليمية قائلاً: «لولا وجود نظام التعليم العام لدينا، لما تمكَّنتُ أبداً من الانتقال من مدرسة برايل إلى جامعة ييل».
يعي سيروس أكثر من غيره من المهتمين بقضايا إصلاح التعليم في أميركا أهمية قانون «من المدرسة إلى فرص العمل» الصادر سنة 1994م الذي جاء ليضيِّق الهوَّة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، من خلال التأكيد على التعليم المناسب الملبي للاحتياجات الفعلية للمتعلمين، والمهارات المتلائمة مع متطلبات سوق العمل، وبأن الترخيص بمزاولة أية مهنة لابد أن يكون مبنياً على المعايير السليمة التي تحدِّدها الصناعة أو الحرفة المطلوبة.
هذا التوجُّه هو الذي يمنح جميع المتعلمين فرصاً متساوية في الالتحاق ببرامج تعلّم تُجرى في مكان العمل والمدرسة عن طريق حلقات وصل بين التعليم الثانوي وما بعد الثانوي وأصحاب العمل، وتسهيل انتقال المتعلمين بين المدرسة ومكان العمل عن طريق تقديم برامج تجمع بين التعليم في أماكن العمل الحقيقية والتعلم في المدرسة، واختيار الطلبة مجالاً أساسياً للتخصص بحيث يحصلون على نقاط تؤهلهم للحصول على شهادة معينة تدل على أن المتعلم قد أتقن المهارات وفقاً للمستويات التي يقرها الخبراء، وذلك بإشراف معلمين ومدربين، ويشمل هذا النوع من التعليم الكفايات التي يتطلبها سوق العمل والاتجاهات الإيجابية نحو العمل، ومتابعة الطلبة ومساعدتهم في العثور على وظيفة أو الحصول على تدريب إضافي.
لاشك بأن الرؤية التعليمية الشاملة لسيروس كانت بمثابة المحرك من أجل تمكين فاقدي البصر من استخدام العملة المتداولة، لدرجة أنه أدلى بشهادة أمام اللجنة الفرعية للسياسة النقدية الدولية والمحلية والتجارة والتكنولوجيا في مجلس النواب حول طريقة جعل أوراق الدولار النقدية في متناول الناس من ضعفاء النظر أو المكفوفين؛ لأن أوراق الدولار بشكلها الحالي لا يمكن تمييزها سوى بالنظر، وإن عدم قدرة الأميركيين المكفوفين على استخدام العملة الأميركية الورقية بصورة مستقلة يمنعهم من دخول الوظائف الابتدائية الضرورية لتحقيق استقلالهم المالي.
رغم معارضة جهات تمثِّل صناعة آلات البيع والبنوك لفكرة تغيير الأوراق النقدية التي تبنَّاها سيروس، إلا أنه في نهاية المطاف استطاع بإرادته القوية إقناع محكمة الاستئناف الأميركية لمقاطعة كولومبيا بأن تأمر وزارة المالية باستنباط حل عند إعادة تصميم الأوراق النقدية المقبلة.
النشاط السياسي لسيروس هو الآخر محطة جديرة بالتوقف والتأمل، فقد تطوَّع منذ دراسته بالمرحلة الثانوية في حملة لانتخاب غاري لوك كأول حاكم ولاية أميركي من أصل صيني، والذي يشغل الآن منصب السفير الأميركي لدى الصين.
كما عمل كمتدرب مقيم لدى ماريا كانتويل، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية واشنطن، وفي وقت لاحق عمل لدى هيلاري رودام كلينتون، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك آنذاك (وزيرة الخارجية حالياً)، وهناك قام بمساعد الأفراد وشركات الأعمال المهجّرين بسبب أحداث سبتمبر/ أيلول 2001 للانتقال إلى الولايات المجاورة.
لقد جاء انتخاب سيروس ليؤكد على حق الأشخاص من ذوي الإعاقة في التعليم وتوظيفه ليكون أداة فعلية للتغيير في مجتمع فسيفسائي كالولايات المتحدة الأميركية. وهذا المعنى عبَّر عنه سيروس خلال حملته الانتخابية قائلاً: «بصفتي إنساناً من غير العرق الأبيض وابناً لمهاجرين ومعوقاً، فإن حبِّي للولايات المتحدة يسمو فوق كل شيء آخر في المبدأ الأساسي للمساواة أمام القانون».
إننا نثمّن عالياً إرادة الناخبين الأميركيين الذين منحوا أصواتهم لسيروس الذي اعتبروه أفضل من يشعر بآلام المهمَّشين في المجتمع الأميركي، متمنين له كل التوفيق والسداد في مهام عمله كسفير لحق التعليم في الكونغرس.
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3746 - السبت 08 ديسمبر 2012م الموافق 24 محرم 1434هـ
شكرا
شكرا على هذا العرض الشيق يا أستاذ، وهذا هو الفرق بين الشعوب الحية المتحضرة وبين الشعوب المتخلفة. لو كان عندنا لوضعنا امامه مئات العراقيل.
ماذا لو؟
ماذا لو كان في احدى الدول العربيه شخص نابغه مثله هل سوف يرتقى بما هو الآن ام يكون مهمشا لا قيمة له فعلا ترتقي الشعوب بتركها توافهالامور واستغلال كل فكر وعقل وراي.