هم أهل هذا الفن بلا منازع مهما حاولت القوى الغربية المهيمنة على العالم ولوج هذا المجال ومنافستهم. إنه فن «التبرير للأخطاء» العربية بامتياز. هذا ما أوضحته أحداث مصر الأخيرة وهي تحت قيادة الإخوان المسلمين وهم أحد ركائز ثورة 25 يناير ضد نظام سابق أطلق عليه المصريون صفة «الديكتاتورية».
تبرير الأخطاء السياسية تجاه ما حدث أمام قصر الاتحادية الذي برز اسمه فجأةً كأهم موقع سياسي مؤثر في أحداث مصر حتى أنه فاق تأثير ميدان التحرير. فما أهمية هذا القصر؟
هو موقع رئاسة الجمهورية في منطقة مصر الجديدة، أو قصر العروبة كما يُطلق عليه. يستقبل فيه رئيس الجمهورية في مصر الوفود الرسمية الزائرة ويقع في حي هليوبوليس (مصر الجديدة) الراقي شرق القاهرة.
كان في الأصل فندقاً من أفخم الفنادق في عصره الذي بني فيه مطلع القرن العشرين (1910)، وكانت تملكه شركة فرنسية. لفت معماره المتميز النظر إليه فأصبح عامل جذب سياحي للعديد من الشخصيات الملكية آنذاك في مصر وخارجها إضافة إلى رجال الأعمال الأثرياء.
في الستينيات استعمل القصر الذي صار مهجوراً بعد قيام ثورة يوليو وبعد أجواء التأميم، كمقر لعدة إدارات ووزارات حكومية ولم يستخدمه الزعيم الراحل عبدالناصر كمقر له أبداً. إلا أن السادات حوّله العام 1972 مقراً لما عُرف أيام زمان باتحاد الجمهوريات العربية الذي ضم آنذاك كلا من مصر، سورية وليبيا. ومنذ ذاك الوقت عُرف باسمه الحالي غير الرسمي «قصر الاتحادية» أو «قصر العروبة».
وجاء الرئيس المعزول محمد حسني مبارك في الثمانينيات فحوّله، بعد أن أنفق عليه أمولاً طائلة من ميزانية الدولة، ليكون المجمع الرئاسي في مصر للحكومة المصرية الجديدة برئاسته شخصياً، وقد حافظ على كافة رموزه ونقوشه القديمة.
صمّم القصرَ معماري بلجيكي ويحتوي على 400 غرفة فاخرة، إضافةً إلى 55 شقة خاصة وقاعات بالغة الضخامة. الطابق السفلي ومنطقة العاملين كان من الضخامة بحيث تم تركيب سكة حديدية خاصة بطول هذا القصر كانت تعبر مكاتب الإدارة والمطابخ والثلاجات والمخازن ومخازن الطعام والعاملين.
هذا هو القصر الذي يحكم منه رئيس مصر الجديد والذي تتجه إليه الأنظار اليوم لا ليصدر منه تبرير الأخطاء بل بدلاً للتراجع عنها. فقلب الحقائق بدل الاعتراف بها كما هي على الأرض، هي علة الوضع العربي المتأزم الآن على أكثر من صعيد سواءً عند الحكومات التقليدية القديمة، أم عند القيادات الثورية- كما تسمي نفسها- وقد حملتها نسائم الربيع العربي لسدة الحكم؛ فاستمرأ بعضها وكبا بعضها على وجهه واستعلى الآخر على الناس الذين ثار باسمهم، ثم غدا يعاملهم كما كانت تعامله «الديكتاتورية» من قبل.
مع أن المنطق يقول إن قلب الحقائق لا يمكن أن يستقيم أبداً، كذلك تلفيق الاتهامات للمتظاهرين السلميين هو نفس أسلوب النظام السابق باعتراف المسئولين الحاليين، إذن ما الذي تغيّر لتعود الإسطوانة بنفس الشرخ لتدور على رؤوس المعارضين؟
هناك إذن خلل ما يجب الاعتراف به لإصلاحه، خصوصاً وأنها المرة الأولى في الوطن العربي أن تخرج مظاهرات لإسقاط رئيس مدني، منذ ثورة 23 يوليو 1952، بعد خمسة أشهر فقط من انتخابه، والغريب أن من يثور عليه هم نفس المستضعفين الذين ثاروا معه ضد الظلم السابق! وهذا دليلٌ على أن لا أحد يتعلم في الوطن العربي من أخطاء الماضي لأن كل السياسيين المنتفعين من المرحلة التي يعيشونها لا يقرأون التاريخ جيداً بوعي الفاحص المتأمل لما تحت رجليه. فها هي موقعة الجمل تتكرر فيما سمي بـ «خرفان الاتحادية»، مع أن الحيوانين مظلومان في التشبيه، فلا الجمل من مخلوقات الله المتوحشة والمراوغة، ولا الخرفان المضحية بدمائها دائماً من أجل سد جوع الناس كذلك.
وهاهي الصحافة والفضائيات تنقل لنا على الهواء المصطلحات العربية السياسية والفوضوية الجديدة مثل (شبيحة سورية، ميليشيات وشبيحة الإخوان، مرتزقة في كل مكان من خارج الأوطان، بلطجية للضرب وتشويش الأفكار والمطالب، وأخيراً خرفان الاتحادية). هذه التي رافقت للأسف ثورات الربيع الحقيقية قبل أن تتحوّل لخريف يبذر الاصفرار هنا وهناك، وبأيدي شريرة تلعب في العلن وليس في الخفاء.
مشكلة الساسة العرب، خصوصاً المتأدلجين بلا وعي، أنهم لا يحبون سماع صوتٍ آخر يعلو فوق أصواتهم أو حتى يوازيها في «التون» لأن ذلك صار في القاموس العربي-الإسلامي فقط من المحرمات ورجس من عمل الشيطان. مع أنه من المسلمات في ديار «الكفر»، وهو من أهم رموز الحضارة الحديثة والديمقراطية التي تحوّلت عندنا إلى «علكة» ماسخة بعد أن أصبحت تُمضغ على كل لسان وإن كان ديكتاتورياً قلباً وقالباً. ولهذا اقترح أحد الأخوة أن يتم إنشاء مصنع لتعليب «التبريرات بالأخطاء» العربية وتصديرها لدول الحرية والديمقراطية علها تعلمهم كيفية صيانة «كرامة المواطن» الأوروبي!
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3745 - الجمعة 07 ديسمبر 2012م الموافق 23 محرم 1434هـ
جميل
جميل ما كتبت كنت في قمة السعادة وانا اقرأ كلماتك الجميلة ، سعيد لان ما كتبت فيه المضحك والمبكي وتشخيص لواقع عانينا ونعاني وسنظل نعاني من تبعاته انه حالة ازلية ندعوا الله يأخذ بايدي عقلاء امتنا لتمكينه في اخراجنا من هذه الحالة الكارثية لنتمكن من تأكيد اننا خيرة امة.؟؟؟