لَفَتَني تصريحٌ غريب قبل يوميْن، لجنرال عسكري إيراني. التصريح يقول: «إننا نرفض توفير الأمن لمنطقة ما، كمنطقة المحيط الهندي، التي تشترك ست وثلاثون دولة في مصالحها الاستراتيجية، على رغم أن بينها دولاً غير مرتبطة بهذه المنطقة، والتي تتابع (أي تلك الدول) تحقيق مآرب خاصة من خلال التواجد فيها (أي تلك المنطقة) بذريعة الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية».

هذا ما خصَّ التصريح، أما قائله فهو قائد القوة البحرية في الجيش الإيراني الأدميرال حبيب الله سياري. وهو من القيادات العسكرية المتقدمة في إيران، ومقرب جداً من مراكز صنع القرار الأعلى. فضلاً عن ارتباط القوة البحرية الإيرانية بالإنتاج الصناعي الإيراني المشترك (المدني منه والعسكري)، كون هذه القوة معنيةً بمسألة الواردات والصادرات التجارية من وإلى إيران، وبالتحديد من مجال النفط والغاز، والإحاطة بدقائق أمورها وخفاياها.

لكن، وقبل مناقشة هذا التصريح، يتوجَّب أن نقِف على مجموعة من الحقائق الإيرانية، والذي يعتبر ذكرها أحد أهم مفاتيح فهم ما قاله المسئول العسكري الإيراني:

أولاً: إيران تتجاور مع خمس عشرة دولة ذات أهمية خاصة، في منطقة الخليج العربي، وآسيا الوسطى والجنوب الآسيوي، من بينها 12 دولة متشاطئة معها في بحار مفتوحة وأخرى مغلقة.

ثانياً: محافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية (جنوب شرق) هي إطلالة إيران الوحيدة على المحيط الهندي والمياه الحرة، وهي قريبة من مثلث الاضطراب العرقي (باكستان/ أفغانستان)، ويبقى مضيق هرمز، الممر الآخر المشترك، الذي يفضي بها إلى تلك المنطقة وبحر العرب.

ثالثًاً: على رغم أن الحدود البحرية لإيران لا تزيد على الواحد والثلاثين في المئة من الشمال حتى الجنوب (54 منها بريَّة و15 منها نهريَّة) إلاَّ أن تسعين في المئة من صادرات وواردات إيران التجارية وغير التجارية تتم عن طريق البحر.

رابعاً: أمام كل تلك الحقائق الاستراتيجية، المؤثرة جداً في صوغ السياسات الإيرانية، فقد شيَّدت إيران لنفسها قوة بحرية متعاظمة، تتمدَّد على مساحة شاسعة من البحار وصلت إلى البحر الأبيض المتوسط، بل ووصلت حتى إلى ما بعد الكتف الغربي للقارة الإفريقية باتجاه أوروبا، كما أعلن ذلك قائد البحرية الإيراني ذاته في مداخلة له أمام البرلمان في الحادي والعشرين من نوفمبر الماضي.

من هنا، يمكن إدراك خطورة ما قاله الأدميرال سياري، كونه نابعاً من وضع استراتيجي بالنسبة لإيران. فأول إسفين أريْدَ له أن يُضرَب على أثير هذا التصريح هو حقيقة التواجد الإيراني في منطقة المحيط الهندي. فهذا التواجد، تخطى مرحلة المرور العابر، إلى مرحلة «التمركز والتحكم» في أجزاء كبيرة منه. وقد تبيَّن ذلك بوضوح في مسألة مكافحة القرصنة في تلك المنطقة، والتي دَخَلَت فيها البحرية الإيرانية بشكل رئيسي ومباشر.

ولأن عمليات القرصنة باتت تمتد إلى 2300 كم وليس فقط على ضفاف السواحل الصومالية، فإن الإيرانيين باتوا يتواجدون في المنطقة، وعينهم على تسعين في المئة من وارداتهم وصادراتهم. وربما كانت تلك المسألة حجَّة للإيرانيين، لكي يقوموا بتسيير قطعهم البحرية في المحيط الهندي بحجة حماية سفنهم التجارية، أو تلك القادمة إليهم، في ظل امتناع الكثير من شركات التأمين البحري العالمية، عن تغطية تأمين سفنهم التجارية، بعد العقوبات الدولية المفروضة عليهم.

نقطةٌ أخرى مهمةٌ قد يرمي إليها المسئول العسكري الإيراني بتصريحه المذكور، وهو أن إيران قد تنقل معاركها السياسية إلى البحر، وبالتحديد في تلك المنطقة الحساسة، كما فعلته في مضيق هرمز (ومازالت). هي تدرك أن 93 في المئة من الحركة التجارية العالمية تمر عبر خليج عدن ومضيق باب المندب الواقع بالقرب من تلك المنطقة البحرية، وبالتالي، فهي تريد أن تقول للولايات المتحدة الأميركية، والحركة التجارية الأوروبية، إن تواجدها العسكري البحري التشاركي لا يمكن أن يكون من غير أثمان سياسية.

الإيرانيون يدركون أن البحر وسيلة حيوية للتجارة والاتصال الدولي، لكن يمكنه أن يصبح ساحةً للصراع أيضاً. فجزء مهم من الخلاف الصيني الهندي هو بسبب البحار، ترفده في ذلك مسائل الطاقة في بحر الصين الجنوبي، وأيضاً، النفوذ التجاري الكبير لبكين على أرصفة الموانئ البورمية والسيرلانكية والبنغلادشية. من هنا، فإن الإيرانيين، قد يلجأون إلى التصعيد «المحسوب» في هذه المنطقة الحساسة مع دول غريمة لهم، لإرغامها على تقديم تنازلات في مفاوضات مرتقبة حول الملف النووي، قد تجري بعد أسابيع.

إذا كانت عمليات القرصنة قد كلَّفت الاقتصاد العالمي ما بين سبعة واثني عشر مليار دولار، و1090 رهينة، فإن إقلاق ذلك الامتداد البحري، القادم من جنوب إفريقيا وصولاً إلى جنوب شرق القارة القديمة، وبشكل ممنهج (ولو عن طريق فك التعاون الثنائي وإقامة التحالفات المكتومة)، سيعني أن المعركة ستكون مكلفةً للأطراف الدولية، وخصوصاً أنها منطقة حيوية للأميركيين، للتواجد بالقرب منطقة الصراع العربي الإسرائيلي، وأيضاً من المسارات الواصلة إلى كوريا الشمالية ومراقبة الصين، وأيضاً للجزر الصغيرة الواقعة في المحيط الهادئ.

بالتأكيد، فإن الإيرانيين يستفيدون خلال تواجدهم في منطقة المحيط الهندي، بعلاقاتهم الجيدة مع الدول المحورية في تلك المنطقة. فهم يمتلكون علاقات مهمة جداً مع الهند، وبالتحديد في مجال الطاقة والأمن. ولديهم علاقات مع الحكومة الصومالية والإريتيرية، الواقعتين على ضفاف باب المندب، ومع دول الأطراف الغربية لقارة إفريقيا، وبالتالي، يسهل عليهم ذلك، تواجدهم النشط هناك، وبحيوية وتسهيلات أكبر، وعلى مساحة بحرية مترامية على مد البصر.

في المحصلة، فإن إيران التي أعلنت من قبل، أن «التبادل التجاري عبر الشحن والنقل البحري، وبسط السلطة والسيادة الوطنية والتنمية العمرانية في الشريط الساحلي وصيانة المصالح الاستراتيجية للبلاد، تعتبر من أهم موارد الاستفادة من البحار» بالنسبة لها، فإنها ستقوم بدور ما خلال المرحلة القادمة، في منطقة تشتغل فيها ثلث التجارة العالمية، على الأقل لتشتيت الضغط عليها، بدل التركيز وفق نظرية «القوة» المفرطة، وذلك لتمكينها من شن هجمات متفرقة، يمكن أن تحقق نتائج على طاولة السياسة.