العدد 3740 - الأحد 02 ديسمبر 2012م الموافق 18 محرم 1434هـ

الإجابة بـ «نعم» أو «لا»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

حياتنا السياسية هي مجموعة من الأسئلة الصّعبة. لكنها ليست أسئلة تخييرية، وليست ضيّقة الأفق. فبعضها يحتاج إلى إجابات أوسع من أن نقول: نعم أو لا، والتي عادة ما توسَم على أنها أسهل الإجابات وأيسر لليراع في أن يخطها. وما دامت هي كذلك في سهولتها، وما دامت الحياة السياسية محاصرة بأسئلة صعبة، فهذا يعني، استحالة الـ «نعم» والـ «لا» في الإجابة السليمة عن تلك الأسئلة.

أقول هذا استهلالاً لكي يكون مدخلاً لمناقشة «النقاشات السياسية» التي باتت تأسر لحظاتنا، حتى ونحن ذاهبين إلى النوم. أصعب الإجابات في السياسة، هي أن يحاصرك أحدٌ بسؤال ناشف، تتم صياغته لا لشيء سوى لمراكمة النقاش على النقاش، لكي يفضي بنا إلى نقاش جديد! ما يعني، أن ذلك السؤال الناشف، لا يبتغي إجابة توصلنا إلى نتيجة نتراضى أو نتسالَم عليها.

والحقيقة، أن مثل تلك الأسئلة، باتت تملأ الفضاء، مع انطلاقة ما بات يُعرَف بالربيع العربي. فهذا الربيع، الذي أطاحَ بأربعة أنظمة برؤسائها، وهَلهَلَ الخامس، وأيقظ ما يماثل ذلك وأكثر في عدة دول عربية، جَعَلَ سماطي النقاش يدمنون على تخيير أنفسهم بين أمريْن لا يختزلون الحقيقة؛ كونهما لا يحتويان على أي تفصيل. فالأبيض والأسوَد لا يشتملان على كلِّ الألوان ولا يُنتِجان كل المشهد.

فمن يرى تونس وزعامتها السياسية المتصارعة يهوي على خيار حكم بن علي. ومَنْ يرى مصر وهي تكابد للخروج من أزمتها السياسية الخانقة لا يستحضر إلاّ نموذج حكم الرئيس السابق حسني مبارك. والحال كذلك في ليبيا واليمن، الذي قال عنه رئيسه السابق بأنه يرقص فيه على رؤوس الثعابين. هذه الخيارات والتخييرات في السياسة غير صائبة، وتنمُّ عن قصر نفس ونظر في آن واحد.

عندما جاء الأميركيون والإنجليز وأسقطوا نظام صدام حسين في العراق في العام 2003، وجاء حكمٌ جديد وجاءت معه مآسي العراق، تحدثتُ عنه بقسوة. البعض مع شديد الأسف كان يحيل هذا النقد إلى ميمنة التفكير، ليصبح الناقد من وجهة نظرهم مؤيداً للحكم السابق. لكن الحقيقة هي أن رجاحة العقل تقتضي (مني ومن غيري) بأن لا نكون محصوريْن بين هذيْن النموذجيْن السيئيْن.

فصحيح التفكير ومقدار الحقيقة لا تنتجان من أمريْن اثنين فقط، وكلاهما سيئيْن، بل من توسُّع وبحث في التفاصيل، لنخلص إلى نتائج أهم من قول نعم ولا. وكما قال الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل «تكسب الحقيقة من أخطاء الذي يفكر بنفسه بعد دراسة وتحضير أكثر مما تكسبه من الآراء الصائبة لمن يعتنقونها بسبب أنهم لا يريدون تكبد عناء التفكير».

مَنْ منا يريد أصلاً أن يعود حكم البعث في العراق بصيغته السابقة بكل موبقاته ومآسيه على العراقيين وعلى جواره؟! بل حتى نائب رئيس مجلس قيادة الثورة المنحل السابق عزت إبراهيم الدوري، نَقَدَ التجربة البعثيّة في آخر خطاب له، فكيف بالآخرين! لكن أن أكون مخيَّراً بين أن أقبل بنظام الإعدامات الدموي، أو بنظام طائفي ينخر فيه الفساد، فهذا غير مقبول، لأنني سأجيب بأنني أطمح في أن يأتي أفضل منهما، فلا أعيش في ظل نظام دموي ولا في ظل نظام طائفي.

في المسألة السورية يتكرر ذات السؤال. فالدمار الذي تخلفه المعارك بين النظام السوري وبين المعارضة المسلحة يجعلني أتحرر من الارتهان إلى هذيْن النموذجيْن. وعندما نتحدث ناقدين لنظام البعث في سورية لا يعني ذلك تزكية للمعارضة المسلحة. وعندما ننقد الأخيرة، فلا يعني ذلك أنني أقبل بنظام البعث، الذي مازال يعتقل مَنْ يرفع يافطة ممهورة عليها جملة مُعترِضَة، كما هو حال الطالبة بكلية الحقوق بجامعة دمشق ختام بنيان، والتي اعتُقلت قبل أيام فقط.

نعم، نقول بأن هذا النظام سيئ، لكن لا يعني ذلك أننا نقول بحُسْن رفع السلاح والتدمير، والعكس صحيح. فما يهم هو أن نقول بأن هناك ما هو أفضل من كليهما، بحيث أرفض رفع السلاح ولا أقبل بهذا النظام، لأننا لسنا أمام حتميات نهائية. وما دام الأمر غير خاضع للمسلمات الطبيعية المحسوسة، فهذا يعني أننا نستطيع أن نجترح أشياء أكثر من ثنائية لا تتضمن أدنى مستويات الطموح والرغبات بل وحتى المعقول فضلاً عن المأمول.

عندما نتمعَّن في مثل هذا الأمر فإننا سنجد أن الكثير من الأشياء تم تخليصها من ضيق الثنائية إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. خصوصاً وأننا نتحدث في الشأن السياسي، الذي هو بالأساس قائم على الصراع. فهذا الصراع قد ينتج حرباً وقد ينتج سلاماً. وهذه الحرب قد لا تكون عبر تعمير السلاح. وهذا السلام قد لا يكون بعدم التهارش. وكما قال الرئيس الأربعون للولايات المتحدة رونالد ريغان «ليس السلام انعدام الصراع، بل القدرة على التعامل معه بطرق سلمية».

إذا كانت الأشياء المجردة قد تم الاجتهاد في جوهرها، ومن ثم تفتيتها أو تفريعها، فما بالك الآراء، التي تخضع عادة لإعمال التفكير، والحد من قبول المعلومة الخاطئة، وبالتالي إطلاق العنان للعقل والمقاربات لأن تنتج ما هو أكبر وأبعد من أن أكون هنا أو هناك. وحتى لو كانت مساحة الخيار، هي القبول بأحدهما، فإنه سيكون قبولاً من أجل أن يتغيَّر هذا الخيار ليصبح غير ما كان عليه من حال، وعلى غير ما كان يقابله من نموذج، يساويه في السوء والخطيئة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3740 - الأحد 02 ديسمبر 2012م الموافق 18 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 12:22 ص

      المسافة بين (النعم واللا) المنطقة الرمادية (ليست للعرض)

      الأستاذ محمد
      بالأمس تأكد لي أن كل الردود على التعليقات لعمودك كان ورائها شخصك الكريم، وانتابتي الدهشة بين الصورة التي أحملها عنك وبين ما اكتشفته بالأمس،راقبت الردود وأنا التمس أن أرى التعليقين 1 و2 الذين أهملت اعتمادهما بصورة غير مهنية ويا للأسف الشديد وانتقيت ما يعجبك فنشرته علماً بأني لم أتعدى حدود اللياقة واللباقة في ردودي عليك،وشيئ آخر أكتشفته بالأمس فهناك فرق جليّ بين مستوى المقال ومستوى الرد وكأنهما لشخصين منفصلين !سأواصل قراءة عمودك لأنه الأفضل ولكن لن أعلق عليه مطلقا ،وشكراً
      أخوك أبوحسن

    • زائر 9 | 7:27 ص

      علي نور

      وهل ابقت مقالاتك كل مقالاتك في العقل رجاحة؟؟ سوال ابقيه بين يديك فيما خصصت به الازمة السورية من مقالات لا احسبها سوى صب النار على الزيت والان اراك في مقالك تتبنى خيارك الراجح بان لا تكون محصور بين هذيْن النموذجيْن السيئيْن النظام والمعارضة حسب تعبيرك وفي رايي ان هذا هو(عدم الرجاحة) فالرجاحة ان نتبنى خيار الوقوف مع الشعب السوري الذي يراد له ان يهرس لصالح الاجنبي ، لم نرك ابدا تتكلم عن خيار الحوار بين السوريين وهو الخيارا الانجع الذي يخرج البلد من محرقة اعدت لها وشاركتم انتم الصحفيين في النفخ فيها

    • زائر 8 | 5:50 ص

      زائر 6 سوألي ابسط

      لماذا ننتقد تواجد الأمريكان خارج حدودنا ونتشطر على الأخرين بينما هم في عقر دارنا معززين مكرمين ولا ننبس ببنت شفة ؟؟ سوأل بسيط جدا جدا

    • زائر 10 زائر 8 | 8:05 ص

      الجواب أبسط من السؤال للزائر رقم 6

      لأن البحرين لا تدعي أنها من الدول المناهضة والمقاومة لأمريكا فهي تابع وكفى لكن أن يأتي نظام على ظهر دبابة امريكية ثم يقول أنه نظام مقاوم للامريكين وممانع ومدافع ومكافح فهذي سالفة قوية حدها . شوية احترام للعقل

    • زائر 3 | 12:34 ص

      المسافة بين (النعم واللا) المنطقة الرمادية (3)

      ولكن الحقائق التي لا يمكن تغطيتها أن كلا النظامين كانا ولا يزالان شوكة في خاصرة اسرائيل وأحد أكبر ركائز الدعم للمقاومة الفلسطيينة واللبنانية باعتراف قيادييها وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله،هذه الحقائق للاسف الشديد لا يجدها القارئ في سطورك ويجد مكانها منطقة رمادية تعج بالغموض ولا أدري لماذا ! كلما فرح الناس بها طالعنا كاتبنا العزيز بماورايئيات وظنيّات هذا النصر .
      تقبل انتقادي ولك خالص تحياتي

    • زائر 6 زائر 3 | 3:52 ص

      سؤال

      السؤال الواقعي للزائر: كيف يمكن ان يصبح العراق بلدا مقاوما ومجاهدا ضد الامريكان ومن يحكمونه جاء بهم الامريكي؟؟؟؟؟ سؤال بسيط جدا

    • زائر 7 زائر 3 | 4:40 ص

      المسافة بين (النعم واللا) المنطقة الرمادية

      شكراص على الرد وجوابي على سؤالك هو أن العراق لم يكن بصدد مقاومة الأمريكان بقدر ماكان بصدد التخلص من ديكتاتور أفنى جزء كبير من العراقيين ولا أعيبهم في ذلك ، ما يحصل في العراق لم يكن بسبب الأمريكان بقدر ما هو من العراقيين الإقصائيين الذين لم تعجبهم نتائج الإنتخابات ثم جائت الأنظمة الجارة لدعم هؤلاء كما يفعلون الآن في سورية ولكن سؤالي لك كيف صدقت أن ما يحصل في سورية وتموله دولة خليجية حليفة لإسرائيل هو ثورة !! سؤال بسيط

اقرأ ايضاً