من الأشياء التي يفتقدها منهجنا السياسي في عالمنا العربي والإسلامي، هو الاستقالة. كيف يمكن لأحد يتقلَّد منصباً سياسياً أو يشتغل في الشأن العام، أن يستقيل من منصبه لأسباب متعددة، بعضها قد يكون فشلاً في الإدارة، أو احتجاجاً على أمر ما. ورغم أن هذا الأمر، موجود في السلوك السياسي الغربي بشكل طبيعي، بل أصبح ذلك وسيلة متطورة للاعتراف بأشياء ما كان يجب أن تقع، ووقعت في ذلك العالم الذي تعلمنا فيه، إلاَّ أننا لازلنا بعيدين عنه بسنوات.
وربما لاحظ البعض، أن استقالات بعض الزعماء والسياسيين في الغرب ودول أخرى تكون لأسباب، نراها نحن تافهة، وقد يفعلها لدينا خادم لدى الحاكم، إلاَّ أنها تحصل فعلاً، ويكون لها صدى كبير، وعصف بين أوساط السياسيين والمثقفين ورجال الأعمال، ووسائل الإعلام بشتى أشكالها المرئية والمقروءة والمسموعة، وتنتهي في أحيان كثيرة إلى المحاكمات ولجان التحقيق الرسمية.
لقد استقال رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني بسبب مشاكل اقتصادية، صوَّت عليها البرلمان الإيطالي، وتدخل فيها الرئيس جورجيو نابوليتانو. واستقال رئيس الوزراء الرومانى إيميل بوك بسبب احتجاجات شعبية على إجراءات للتقشف أقرَّتها حكومته. واستقال رئيس الوزراء الأيرلندي بيرتى أهيرن بسبب ضغوط تعرَّض لها تتعلق بذمته المالية، وحساباته البنكيَّة. واستقال الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بسبب أجهزة تنصُّت ومكالمات قام بها ضد غرمائه. واستقال الرئيس الألماني كريستيان وولف بسبب طلبه وقف نشر خبر، وعلاقة بمستثمرين. ولو أردنا أن نحصي مثل تلك الوقائع، لاحتجنا إلى مِداد البحر كي ندوِّنها توثيقاً.
والحقيقة، أن مثل ذلك السلوك السياسي (الاستقالة من المنصب)، المعمول به والممارَس بكثرة في الدول الغربية ودول أخرى (بالتأكيد ليس عالمنا العربي والإٍسلامي) يعكس عدة أمور يمكن تناولها كالتالي:
أولاً: هذه الثقافة تعكس اعتراف الأشخاص المستقيلين بنسبيَّتهم ونسبيَّة عملهم السياسي والإداري في المناصب التي يتسيَّدون عليها. فالحاكم أو السياسي هناك يلتفت قبل كل شيء إلى القوانين والأعراف المرعية في بلده، وتحاشي ما قد يُعيبه أمام الرأي العام. فالأشخاص يذهبون ويأتون، يتلوَّثون أو يتطهرون، لكن المنصب يبقى قيمة عليا، لا يمكنه أبداً أن يكون مجعولاً لخدمة الفرد الذي يديره فقط، وإنما للرَّعية كلها، بشتى طوائفها وأعراقها ومللها ونِحَلها.
هذا الأمر ليس له ذكر في عالمنا العربي. فالمتقلدون للمناصب، يرون مقولة: «الشخص المناسب في المكان المناسب» تسري عليهم طوال حياتهم وحياة أبنائهم. لا يخطئون ولا يسهون ولا يُقصِّرون ولا يغفلون ولا تنحسر طاقاتهم حتى ولو بلغوا من العمر عِتيّا. في حين أن كثيرين منهم يرتكب الموبقات، فيقتل ويعتقل ويعذب ويسرق ويظلم ويُقصِّر ويذبل جَسَده فيصبح كالعرجون القديم، لكنه باقٍ في منصبه ما بَقِي الدهر.
كما أن المنصب في العالم العربي أصبح مع شديد الأسف، وسيلةً للكسب والتربُّح، وليس لخدمة الناس وتلبية مطالبهم والسَّهَر على راحتهم. وعندما يخرجون من تلك المناصب، لا أحد يسألهم: من أين لك هذا؟ حتى ولو راكَمَوا ثروات بحجم الدنيا، لهم ولأبنائهم وخاصَّتهم. وقد ظهر مثل ذلك، بعد أن أخرجهم الله مما هم فيه، أو حين أخرجتهم شعوبهم وهي غاضبة عليهم.
حدَّثني أحدهم، أن شخصاً فاز في انتخابات تشريعية بإحدى الدول العربية. تخيَّلوا ماذا كانت أولى مهام ذلك النائب المحترم بعد أن قبض كرسي التشريع في مجلس النواب؟ أولى المهام والمراسلات والسجالات والاتصالات «والحَنَّة والرَّنة» التي قام بها مع رئاسة البرلمان، وشؤونه الإدارية هي من أجل استخراج جواز دبلوماسي أو خاص بالنواب، له ولأبنائه، لكي يستريح من عناء الإجراءات الروتينية المتبعة في المخارج الطبيعية للحدود، سواء فيما يتعلق بالمطارات أو البر! هذه هي حدود المسئولية بالنسبة للبعض مع شديد الأسف.
ثانياً: هذا السلوك، الذي عادة ما يقوم به أفراد في دول لها احترام للديمقراطية، تعبير عن عدم صِنوانيَّة الفرد والمنصب في عملة واحدة. بمعنى، أن المنصب هناك يمكن التنازل عنه في سبيل أشياء أهم، وبالتالي، هو ينطوي على حالةٍ من الزهد في ذلك المنصب مهما علا شأنه، وليس التعبُّد من أجله. هذا الأمر غاية في الأهمية، لأنه يحمل قيمة أخلاقية تتعلق بنضج الرؤية للأشياء كما ينبغي من دون الحديث حتى عن ضوابط دينية، كما هو موجود لدينا ادعاءً فقط.
للأسف، هذا الأمر نفتقر إليه في عالمنا العربي. فالمناصب هنا، انعكاس طبيعي لهذا الشخص أو ذك. بل لا يُذكر إلاَّ به، عبر أجيال وأجيال، لذا فتراه لا يتزحزح من منصبه إلاَّ وهو ميِّت، أو متقاعد، أو هالِك. أما أنه يخرج لأسباب طبيعية، فيترك الفرصة لغيره، الذي قد يأتي بجديد فلا وألف لا! وهذه العقلية في الحقيقة، هي عقلية لا تعرف التمييز بين العام والخاص، ولا محدودية قدرتها.
ثالثاً: الاستقالة في الدول التي تحترم نفسها، هي تعبير أيضاً عن عدم رضا بواقع قائم. فالسياسيون (بشتى مراتبهم) يستقيلون احتجاجاً على مشروع أو إجراء أو سياسة ما. وهو أحد وسائل التعبير الراقية، التي تعطي الشخص كينونة ورأياً خاصاً به يجب أن يُلتَفَت إليه، وفي الوقت نفسه، تعطيه وقاية من أن يحمل وزراً يراه أمام ناظريه، وهو صامت كالمومياء المحنطة.
وحين نقارب ذلك مع عالمنا العربي، فإننا نضرب راحة يد بأخرى من العجب. فالسياسي أو الوزير أو أي أحد موجود في النظام السياسي، ليس لديه قرار أو وجهة نظر حتى. فحين تكون الحكومة التي يتبوأ هو مقعداً فيها، ديكتاتورية يكون هو ديكتاتورياً. وحين تتحوَّل بقدرة قادر إلى حكومة تدعي الديمقراطية يصبح ديمقراطياً، وحين تميل إلى اليسار يصبح يسارياً، وحين تصبح يمينية غليظة، يصبح يمينياً، وكأنه بندول الساعة، يتمايل إلى ذات الشمال وذات اليمين.
هذه إحدى علامات القصور في الفهم السياسي العربي. وهو في الحقيقة ليس حصراً على مَنْ هم في الدولة، بل هو أيضاً يتعلق بكل مَنْ يعمل في الشأن العام، أو العمل الحزبي.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3738 - الجمعة 30 نوفمبر 2012م الموافق 16 محرم 1434هـ
تقاعد الحكام
على الأقل لو الحكام يصير يتقاعدون بس!!!! مو معقول يتمون لين ما يموتون
هناك سوء في الفهم علي جميع المستويات
قول شاعر العرب العظيم المتنبي :
أغايَةُ الدِّينِ أن تُحْفُوا شَوَارِبَكُمْ * يا أُمَّةً ضَحِكَتْ مِن جَهْلِهَا الأُمَمُ
يدل هذا البيت علي القصور في الفهم في امور الدين ويمكن التعميم في الكثير من الامور الآخري من سياسية وثقافية واجتماعية الخ..وحتي ياتي الوقت الذي يتم فيه ردم هذه الهوة ويبدو انه وقت ليس بالقصير سنظل اسري لثقافات وسلوكيات عفا عليها الزمان وشرب. يقول الله تعالي (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
الرعية كالراعي
الموضوع يمكن ان يقاس على جميع مفاصل الدولة بدا من كبير البلد لاصغر عامل فيها
تجد كل فرد فينا يقرأ الموضوع ويقيسه على الاخرين وينس انه يقوم بنفس الشيء