بعد ثمانية أيام من معارك قاسية، بين الاحتلال الصهيوني وقوات المقاومة الفلسطينية، توصل الطرفان برعاية مصرية، إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وهدنة دائمة، تعهدت بموجبها الحكومة الإسرائيلية وحركتا حماس والجهاد الإسلامي، بالتوقف عن القتال، وعدم خرق اتفاق وقف إطلاق النار، والامتناع عن إطلاق الصواريخ على المستوطنات، والهجمات على خط الحدود. كما تضمن الاتفاق فتح معابر غزة، وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع، وعدم تقييد حركة السكان أو استهدافهم في المناطق الحدودية. وفى حال وجود أية ملاحظات يتم الرجوع إلى مصر راعية التفاهمات لمتابعة ذلك.
جاء هذا الاتفاق، بعد منازلة أسطورية سجلتها المقاومة الفلسطينية الباسلة في قطاع غزة. فلأول مرة تتغيّر معادلة الرعب، التي اعتاد العدو الصهيوني فرضها، طيلة عقود الاحتلال، من طرف واحد، لتتحوّل إلى خطين متوازيين، أحدهما يفرضه العدو، بأسلحته الفتاكة، والآخر تفرضه المقاومة، بإطلاق الصواريخ على المستوطنات الصهيونية، وليمتد مداها إلى تل أبيت والقدس. وليتأكد مجدّداً أن الأمة متى ما امتلكت الوعي والإرادة والقدرة، فإنها ستتمكن من تحقيق توازن الرعب مع العدو، باعتباره مقدمةً لازمةً لإلحاق الهزيمة بمشروعه في التوسع، وقبر ثقافة الخوف والعجز.
لقد حققت معركة غزة أيضاً وحدة خنادق المقاومة، من خلال التنسيق والتفاعل مع بعضها، خلال الثمانية أيام التي أعقبت اغتيال الشهيد أحمد الجعبري، المسئول العسكري لحركة حماس.
على أن ما حققته المقاومة الفلسطينية من نتائج باهرة في المعركة، لم يترجم بشكل عملي في اتفاقية الهدنة، التي تمت بالرعاية المصرية. فالاتفاق، في روحه ونصوصه، يعني أن الموقّعين عليه، من أطراف المقاومة الفلسطينية، قد حزموا أمرهم وقرّروا إنهاء مقاومتهم المسلحة للاحتلال الصهيوني. وهذا الأمر، قد جرى الاتفاق عليه، بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الزعيم الراحل ياسر عرفات والكيان الصهيوني، في اتفاقية أوسلو التي بموجبها أقيمت السلطة الفلسطينية بالضفة وقطاع غزة. بمعنى أن حركتي حماس والجهاد الإسلامي قبلتا بمنهج الرئيس عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية للتسوية السلمية الذي رفضتاه في السابق.
ومن جانب آخر، لا يمكننا اعتبار موافقة الكيان الصهيوني على وقف الاجتياحات والاغتيالات من النتائج الباهرة لانتصار المقاومة، فالكيان الصهيوني لن يقوم بالاجتياح والاغتيال إلا في مواجهة الكفاح. إن قوات الاحتلال تهاجم من يقاوم الاحتلال، وليس من يستسلم لها. وحين تتوقف المقاومة عن امتشاق السلاح، ومواجهة الاحتلال، فإن أسباب عنف المحتل، تتوارى للخلف، ولا يعود لها محلٌ من الإعراب. ولعل تجربة الفترة التي أعقبت عدوان العام 2008 هي خير دليل على ذلك. فقد شهدت الأربع سنوات الماضية فترة هدوء نسبي في قطاع غزة، لم تعكّره سوى حوادث منفصلة هنا وهناك. ولم يجد الإسرائيليون أسباباً وجيهةً للحرب على غزة، طالما أن المقاومين أغمدوا أسلحتهم.
لقد أمن اتفاق أوسلو الموقع العام 1993، معظم البنود التي وردت في اتفاق الهدنة الأخير. ولم تكن المناخات آنذاك في صالح النضال الفلسطيني. أقيمت السلطة الفلسطينية على بعض الأراضي المحتلة، وفتحت معابر غزة، وبقيت مفتوحةً حتى العام 2006، حين استولت حماس على السلطة في قطاع غزة. آنذاك فقط، فرض الصهاينة الحصار مجدداً، وذريعتهم في ذلك، هو أن حركة حماس لا تعترف بالتسوية، وأنها تتمسك بالمقاومة خياراً وحيداً لتحرير فلسطين. ومع اتفاق الهدنة الأخير، برعاية الرئيس المصري محمد مرسي، الذي يعني التخلي عن فكرة المقاومة المسلحة، لم تعد أسباب الحصار قائمة. وبمعنى آخر، تساوت سلطة رام الله مع سلطة حماس، في المنطلقات والأهداف والسلوك. والخاسر الحقيقي في المعادلة هو مشروع تحرير فلسطين.
وإذا ما عدنا إلى حساب الأرباح والخسائر، فإن نجاح المقاومة في التصدي للعدوان الصهيوني، هو بالتأكيد في قائمة الأرباح، لكن ما تمخّض عنه لا يمكن أن نضعه في القائمة ذاتها. إنه يعيدنا إلى مقاربة أكتوبر حيث ينجح السلاح وتفشل السياسة، وهو مشابه إلى حد كبير، بالانتقال الحاد في التحالفات التي سادت مصر قبل حرب أكتوبر، إلى التحالفات التي سادت بعدها. وذلك أمر ينسحب، على حماس، التي تقود السلطة في غزة. فالانتقال من المقاومة إلى العمل السياسي، سوف يتبعه بالضرورة انتقالٌ في خارطة التحالفات، وهو أمرٌ إن لم يتكشف بجلاء حتى الآن، فسوف تجليه الأيام المقبلة.
نقطة أخرى، ضمن قائمة الخسائر، هي نجاح الكيان الصهيوني، في زجّ القيادة المصرية في شئون غزة. وهو أمرٌ فشل في تحقيقه طيلة عقود الاحتلال. وقد أوضحنا ذلك بشيء من التفصيل، في الحديث السابق. فتحت شعار التضامن مع المقاومة في غزة، قبلت جمهورية مصر أن تكون راعياً للهدنة. بمعنى ضمانها لاستمرارها. وبذلك تضيف القيادة المصرية إلى عبء التطبيع مع العدو عبئاً آخر. وليس من المستبعد أن يتزايد تدخل السلطات المصرية في شئون القطاع، بما يؤمّن الهدف الصهيوني الدائم، من إلقاء تبعة إدارة غزّة على السلطات المصرية. وذلك أمر فشل الصهاينة في إقناع الرؤساء عبدالناصر والسادات ومبارك بقبوله. ولكنهم للأسف نجحوا مع إدارة الرئيس مرسي. ولم يكن من سبب مقنع لذلك، سوى شعور القادة في حماس وحركة الإخوان المسلمين في مصر، بأنهم جبهة واحدة، وتغليبهم للايديولوجيا السياسية، على القضية الفلسطينية، ومشروع تحريرها.
وأخيراً وليس آخراً، فإن اضطلاع مصر بالوساطة بين الصهاينة وحماس، يكرّس تطبيع العلاقة المصرية مع الكيان الغاصب، التي أمل كثيرون أن تتراجع إلى الخلف بعد ثورة 25 يناير 2011. لم يكن مقبولاً بأي شكل من الأشكال، أن تكون مصر ثورة 25 يناير، هي ذاتها في السياسة مصر كامب ديفيد. كان المؤمل أن يكون العدوان على غزة فرصةً للتخفف من قيود كثيرة، فرضت على مصر، في مرحلة تاريخية، يُفترض أن الزمن تجاوزها، لكن ما حدث أكّد غلبة الفئوية والسياسة ودوغما الايديولوجيا على المبادئ، بما حقّق الفصل الكامل، بين ثورة 25 يناير والتطلعات القومية، وفي مقدمة هذه التطلعات الانتصار لقضية تحرير فلسطين، وقدس الأقداس.
ويبقى أن نقول، على رغم الصور الداكنة التي أشرنا إليها، إن انتصار المقاومة الفلسطينية، في معركة غزة قد فتح بوابات الأمل لانتصارات أخرى، وقد أنهى للأبد أسطورة الجيش الذي لا يقهر. فهل نأمل في معادلة عربية جديدة يتحقق فيها التوازن بين أداء المقاومة وفعل السياسة؟
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3737 - الخميس 29 نوفمبر 2012م الموافق 15 محرم 1434هـ
داود
معركة غزة... الأرباح والخسائر
ممكن بعد تكتب لنا عن ...
غزوة مهزة... الأرباح والخسائر
هذا ما نخشاه
هذا ما كنا نخشاه ان يتم سلب المقاومة وتحريف البوصل وادعاء النصر ممن كانوا شركاء في حصار غزة.
At least be faire and talk about FAJR-3 provider
At least be faire once in your life time and talk about FAJR-3 provider, without them Hamas/Ghaza would have gone with the wind.
جانب مهم
اعتقد الكاتب كان يركز على نقطة جوهرية وهي ما ستؤول اليه الامور بعد الان. وهو يحذر مبكرا من امور خطيرة وعلى العاقل ان يفهم مسار الاحداث ويعتبر خصوصا مع فداحة الخسائر في الارواح والممتلكات.