المواطنة لا تُمنَح، ولا تخضع لأي قانون، يُسْبِغُها على إنسان أو يحرمه منها، فهي زرع إلهي في أرض الوطن، والخروج عليها خروج على مشيئة الله.
هي نطفة في صلب مواطن، يودعها في رحم مواطنة شرعاً، ليتخلق منهما طفل مواطن، أينما ومتى وُلِد، حتى لو كان على متن مركبة فضائية في غياهب السماء.
في المجتمعات القديمة، حين كانت الأرض مشاعاً، كان جميع الناس مواطنين نسبة للأرض، يتمتعون بثرواتها ويرتحلون فيها بمواطنتهم الإنسانية، وفي عصر القبائل والحروب، التي ساد فيها قانون الأقوى، تمت إعادة توزيع الأرض والتجمعات البشرية، بناءً على الانتساب لعشيرة أو مجموعة عشائر في قبيلة، فكان معيار المواطنة في وطن متغير ومتعدد المكان، هو الانتماء للقبيلة، التي ترتحل من أرض إلى أخرى، سعياً وراء الكلأ الذي هو أساس الثروة وضمان العيش، فيقال مواطن من قبيلة كذا.
وحين نشوء المجتمعات الحديثة، اقتسم الناس الأرض في مساحات وأوطان شبه ثابتة وبحدود معلومة، فبدءًا أصبح الناس مواطنين كل في وطن من اختياره، تعايشاً مع من سَلَكوا مَسْلَكه، وتوافقوا على تأسيس مجتمع يتقاسمون أرضه وثرواته كوطن، سواء مع أفراد قبيلة أو قبائل ما، أو في كنفها، ولكن مازال سارياً قانون الأقوى، في تداخل مسلكية الغزوات القبلية في بعض المجتمعات، وفي الاستعمار الخارجي في أخرى، وأيضاً في التقاء مصالح كلا الطرفين، اما بخضوع تلك القبائل للمستعمر مقابل تسميتها مالكاً للأرض، أو استقواءً به ضد سكان الأرض الأوائل.
ومع تطور المجتمعات الحديثة إلى ما قبل القرن العشرين، في فترة من التاريخ تطورت فيه العلوم الإنسانية، التي مكنت الإنسان من استغلال الكثير من الثروات الطبيعية، الزراعية والمعدنية والنفط، ثم أتبعتها الثورة الصناعية بآلاتها، جعلت كل مجتمع يأثر بأرضه وثرواته، في وطن معلومة حدوده.
وللمواطَنة أيضاً لحظة بداية استتباعية، في الولادة من أبوين بامتداد مواطَنة الآباء والأجداد، دون عَدٍّ في إحصاء، الذي بدأ في إجراءات تعداد الأنفس، تلبية لمتطلبات الحداثة في إجراء الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والخدماتية، ولحصر مواطني كل إمارة أو دولة تلبية لانتفاعهم بثروات الوطن، وعدم تداخلهم بآخرين من مواطني الإمارات والدول الأخرى، الذين يتوافدون للزيارة وطلب الرزق والتجارة، الأمر الذي استوجب أن يحمل كل مواطن إثبات هوية مواطنته ومواطنة نسله، دون أن يستلزم ذلك أي إجراء عدا إصدار تلك الهوية التي لا مجال للأخذ والرد في منحها.
ومع تطور حركة التنقل ووسائلها بين الدول، فقد عمدت السلطات إلى إصدار وثيقة جواز السفر بناء على توافق دولي، لإثبات الدخول والخروج من وإلى الوطن والدول الأخرى، حفاظاً على مصير مواطني كل دولة وسلامتهم وتوفير الرعاية اللازمة لهم في حلهم وترحالهم.
فالمواطنة ليست في بطاقة هوية أو جواز سفر، يُباع ويُشترى، أو يُمنح ويُسحب من قبل السلطات، بل هي ارتباطٌ بوطنٍ وجدانياً وذهنياً واجتماعياً، بتكامل الفرد بالجماعة، وليست هي دين أو مذهب أو انتماء طائفي، بل هي الحق دون ربط بذلك، في اقتسام الثروة بالعدل والمساواة دون تمييز بين المواطنين. وهي ليست ولاءً لحاكم أو لوجيه، أو رجل دين أو سياسة، ولا تقاس بمناكفة أي منهم، بل هي الولاء للعدل والمساواة، ورؤية المواطن لمثله من المواطنين في الحقوق والواجبات، سواءً السياسية أو الحقوقية، أو الدستورية والقانونية، أو الخدمية.
والمواطنة هي حقٌ متساوٍ في اختيار الرؤساء، وفي اختيار سلطاته التشريعية والقضائية والتنفيذية، وفي محاسبة كل منها، عبر الانتخاب الحر والمباشر، وعبر إعفاء من ضلّ السبيل وقَصّر، وعبر محاسبة من تعدى وأجرم من الأفراد والسلطات، من خلال سلطته القضائية المستقلة والنزيهة، القائمة بتطبيق القانون الذي هو توافق وطني شامل، على الجميع دون محاباة ولا تمييز ولا تفريق.
والمواطنة هي حقٌ في تأسيس وتشكيل الجماعات المدنية من أحزاب ومؤسسات مجتمع، بكامل حرية الأفراد وبقرارهم دون تدخل من السلطات، إلا ما خالف القانون، الحالة المنوط الحكم فيها، فقط للقضاء، فلا يحكمها لا وزير ولا غير وزير، وإنما هو القضاء فحسب.
والمواطنة لا تقاس كما التجنيس، بتقديم خدمات للوطن، إلا ما استطاع المواطن تقديمه، من خلال عمله وعلمه وقدراته، وإلا انتفت حالة المواطنة عن الطفل والعاجز والعاطل والمريض والجاهل والمصاب عقلياً. أولئك المواطنون الذين لهم حق على المجتمع بالرعاية والإعداد.
أما الجنسية، فهي لا تتعدى الصفة من المجانسة والتجنيس، فتقول هذا يُجانس ذاك، أي يُشاكِلَه ويشبهه، وهي صفة ليست دائمةً كما المواطنة، فالطبيعة الإنسانية تجعل الإنسان يجانس ويشاكل المواطن البحريني اليوم، ويجانس ويشاكل مواطناً آخر في وطن آخر غداً، ولهذا يمكن للجنسية أن تُطلب ويُوافَق على منحها، متى ما تجانس أي كان مع المواطن، وتُسحب وتُلغى أو يتم التنازل عنها، متي ما تجانس المعني مع أي آخر، وأنس له.
وللجنسية والتجنيس معايير، اجتماعية وقانونية وحقوقية، يتبين منها المُجانَسَة والمُشاكَلَة، منها التعايش سنين طوال، والانسجام مع الأعراف والعادات الاجتماعية، وإجادة اللغة قراءةً وكتابةً، عبر التخالط والتوافق، والتواصل والتكامل، ثم يأتي الامتحان لصدقية كل ما سبق، من خلال تقديم الخدمات الجليلة والمتميزة التي يحتاجها المجتمع. فما الذي يجعل أي إنسان مجانساً لأهل وطن ما، إن لم يكن لديه الاستعداد الوجداني والعقلي، في أن يخدم المجتمع بمثل وأكثر من المواطن. ونؤكد هنا الخدمة للمجتمع، وليس لأي فئة منه، فالأصل هو المجتمع، وهو أي المجتمع، من يمنح الجنسية، وهو من يسحبها ويلغيها، ربما عبر استفتاء بنعم أو لا، ولو في حدود المحافظة التي يقيم فيها.
والجنسية أو التجنيس يبدأ سبغها على بالغ راشد، مضى على رشده سنوات حددها القانون، يكون قد قضاها في المجتمع المعني الذي يزكيه لاكتسابها (وهي غيرها المواطنة)، بناءً على انسجامه ومقومات المجتمع وقيمه، وهو يورث تجنسه إلى نسله من زوجة مجنسة، ولا يستحيل مواطناً تحت أي ظرف، ولكنه قد يُخَلِّف مواطناً متى ما تزوّج مواطنة إن كان ذكراً، أو مواطناً إن كان أنثى، وأنجب من أي منهما، لتكون هناك بداية أخرى للمواطَنة، وهي الإنجاب من مواطن أو مواطنة، متزوج أو متزوجة من مكتسب الجنسية، ولا يكون الزواج بمواطن أو مواطنة، بحد ذاته مسوغاً للتجنيس إلا من بعد استيفاء شروط التجنيس، فيظل الزوج أو الزوجة، مقيماً بحماية الزوجية، ولكن بانتمائه الأصلي إلى أن يكتسب الجنسية بشروط القانون. والإقامة هنا غير محدودة المدة كما هي للعمالة الوافدة والمستثمرين الأجانب، فهي مرتبطة بشرط الفترة القانونية لاكتساب الجنسية، واستمرار علاقة الزواج إلى لحظة استحقاقها، ولا يمنع ذلك اكتساب الأولاد الفوري والطبيعي للمواطنة في غضون ذلك، ليترعرعوا في كنف الوطن.
والمواطن، ليس له ولا عليه، إلغاء مواطنته، فالمواطنة هي البذرة، التي تنبت الوطن، ولا تنتهي مواطنته بصفتها الحقوقية والانتمائية، إلا بموته، والمواطن يُوَرِّث مواطَنته إلى نسله منه، سواءً رجلاً كان أو امرأة، لذلك هناك في الوطن، مواطن ومجانس للمواطن (مُجَنّس أو مُتَجَنِّس)، وهذا لا يعني التفرقة بينهما في الحقوق العامة بمعيار الإنسانية، فهما يقتسمان ثرواته تساوياً، ويخضعان للقوانين نفسها، إلا أن المواطن يختص بالحقوق الخاصة بالمواطنة، والتي أولها أن مواطنته لا تُمس بأي حال من الأحوال، حتى في سوئه وإجرامه، فهو يخضع لأقصى العقوبات إلى درجة تغييبه في السجن المؤبد، بحسب القانون وبحكم القضاء، ومتى ما مات يدفن في وطنه، فهو مواطنٌ منذ الولادة إلى الممات، حتى لو تجنس إضافةً لمواطنته بجنسية أخرى، بحسب رغبته وبحكم القانون المحلي أو ضده، طالما سمح القانون الدولي أو قانون الدولة الأخرى بذلك، بعكس المجانس، الذي قد يمنحه المجتمع الجنسية، بناءً على طلبه وقبول المجتمع به، في التعايش، ويخضع لحكم القانون كما المواطن. إلا أن هناك سبباً واحداً يبيح للمجتمع أن يلغي صفة تجنسه وترحيله إلى وطنه الأم أو أي جهة يختارها، ألا وهو الخيانة العظمى، بإفشائه أسرار الوطن العسكرية والأمنية القومية، مباشرة وبقصد الإضرار بالمجتمع إلى عدو بَيِّن، أو مشاركته ذاك العدو في الاعتداء على الوطن والإضرار بمكوناته، عبر استخدام السلاح.
ولا يقارن فعل الخيانة العظمى، بإبداء رأي مضاد لسياسة السلطات، أو المشاركة في فعاليات ومؤتمرات علمية أو حقوقية، أو التواصل مع مؤسسات دولية أو أممية، أو وسائل اعلام ورقية أو فضائية، تُعنى بالرصد والتحليل، والإعلان من خلالها عن نواقص أو مخالفات للعهود الدولية، ولا حتى اللجوء للمحاكم الدولية، والتي هي متاحة لجميع سكان البسيطة، فهذه أمور إنسانية تتصل بالمعالجات وبحرية التعبير، وبإحقاق الحقوق متى ما عجزت السلطات المحلية عن ذلك أو منعته.
وعليه، وفي تقديري الخاص، وجب أن يستعاض في بطاقة الهوية وجواز السفر، عن مسمى «الجنسية»، بوصف الانتماء بالتدليل عليه، فيستعاض عنها بمسمى «الانتماء»، فمثلاً: الهوية: «مواطن» للمواطن، و «مجانس» للمجنس، و «مقيم» لمن أقام بالزوجية، فكل هؤلاء منتمون إلى الدولة الوطن، تحت مظلة استهلال وثائق جوازات السفر وبطاقات الهوية، باسم الدولة، ولهم الحقوق العامة نفسها، مع ضرورة أن يتفهم المجتمع الرابط الحقوقي المشترك وعدم التمييز في التعامل والخدمات واحترام جميع مكونات المجتمع هذه على قدر المساواة.
إقرأ أيضا لـ "يعقوب سيادي"العدد 3736 - الأربعاء 28 نوفمبر 2012م الموافق 14 محرم 1434هـ
اريد العلاقة بينهما و ملخصة
صراحة
كان هدا مفيد جدا
ممكن توضيح
العلاقة بين الهوية الشخصية وامواطنة والجنسية
سوؤال
ممكن توضيح
العلاقة بين الهوية الشخصية وامواطنة والجنسية
مصالح ومنفعه
المواطنه الحقيقيه هي الانتماء للارض والوطن وهناك حقوق وواجبات على كل مواطن ، ولا يقاس الانتماء بالولاءات لقبيله او فئه في ما في المجتمع ، ولا يحق للمواطن الحصول على مصالح ومنافع شخصيه او فئويه على حساب المواطنين جميعا والاخلال بواجباته تجاه الوطن وحقوق المواطنين.
كلمات وكلام له معنى لا يفقهه الا من القى السمع وهو شهيد
البحرين تزخر بشعب خلاق مبدع اصيل طيب ولكن للاسف تتعامل معه الجهات الرسمية بالظن والتهمة والتهميش والاقصاء والتخوين وكل سيء من الامور واقول الدوام لله وحده فهذه الامور التي يلمسها الناس على الارض لا تخدم من يقوم بها بل سوف تكون وبالا على الجميع والايام ستبرهن صحة هذا الكلام
كل المخلصين والمحبين لهذا الوطن ينصحون ويحذرون ولا يوجد من يسمع
وثيقة السفر وتجويز الجائز ليس من المعاجز
المسميات كثيرة ومتعددة ومتنوعة ولها ألوان ثابتة ومتغيرة الا أنها وثيقة سفر. فقد لا يكون تعدد الجنسيات سبب و قد لا يكون اتعدد والمتنوع سبب الا أن الاعتداء على الناس بأشكال ملونة مثل اسقاط أو سحب قد يشابه ولا يشبه التحايل على القانون. فقد لا يجوز الا اسقاط الطائرة وسحب السيارة. فهل يجوز اسقاط الهوية أو الجنسية عن شخصية؟.
أم الجواز في غربة وغربال لا عبر ولا يعبر الوطن؟
هذا واحد من العقول البحرينية التي يجب أن يستفاد منها.
مقال رائع وأتمنى من المسئولين في البحرين قراءته كي يستفيدوا من خبرات المواطنين مثل كاتب المقال عندما يريدون اتخاذ قرارات مصيرية، البحرين تزخر بالعقول التي تفيد الوطن والفاضل يعقوب واحد منهم أتمنى من كل قلبي أن يقرأ من أمر بسحب جنسية بعض المواطنين هذا المقال ليرى كيف هو أخطأ ولم يستند إلى قانون عندما اتخذ هذا القرار، شكرا أخي يعقوب
انا اريد العلاقة بين المواطنة والجنسية ممممم ممكن
شكرا على هذا الموضوع الحيوي
كلام في الصميم من بيده القرار يفقها وكونهم تعاطوا على اي حقوق يحصليها الشعب فهي منة منهم يسحبونها متى شاءوا وهذا ينسحب على الجنسية ونقول هذا القرن زمن التغيير فلسنا في نهايات القرن السابع عشر فالمخاض بدء من البحرين وهو يتسع في منطقة الخليج فالحكم المطلق سينتهي وسترون كيف الشعوب تشارك في القرار وليس على طريقة سامان ديكه وهي لهجة دارجة معناها تمبل اي صنم وسلمت ال سيادي.
هوية الجنسية وجنسية الهوية
الهوية والجنسية قد لا تعرفا بانسحاب من أرض المعركة واستخدام جواز السفر ورقة ضاغطة غير ضاغطة وبلا شرطية ولا مرورية.
فقد يكون المعادن الثمينة قليلة لكن الناس أجناس و الناس معادن. فهل سحب الجنسية وارد أم صادر بغير أمر ولا يمكن تغيير معادن الناس؟
شكرا لك
استاذ يعقوب،، شكرا لهذه السمفونية الرائعة،، هذا اجمل ما كُتِبَ عن الجنسية والانتماء .. حديث هاديء منطقي و عقلائي..
وفقك الله ورعاك.
يعقوب سيادي ..... يعقوب سيدي
سيدي الاستاذ يعقوب .... لا فض فوك ... كل ما كتبته في مقالك هو حق وأن ما ذكرته في ذيل المقال حول ضرورة عدم التمييز في التعامل والخدمات واحترام جميع مكونات المجتمع تلتقي فيه مع الإمام علي عليه السلام الذي قال في الانسان الآخر "إما شبيه لك في الخلق أو نظير لك في الدين"
شكرا استاذنا الجليل وكثر الله من امثالك الشرفاء الأوفياء.
المواطنة هي البذرة التي تنبت الوطن
كم هو موضوع هام وحسّاس جدا خصوصا بعد ما قامت الحكومة بسحب الجنسية من عدد من المواطنين في خطوة منها لتكميم أفواه من يحاول أن يحذو حذوهم رغم الإنتقادات الدولية ولكن عش رجب ترى عجب (محرقي/حايكي)
الوطن
مقال رائع ... الوطن هو تلك الأرض الذي من أجلها يضحي الأنسان و يستشهد ويقدم الغالي من أجل ترابها ..احترام اكتساب الجنسية لا يعني اكتساب العشق للوطن .... يعجبني الاخوة المصريون في ذلك مهما حصلوا علي أي جنسية تبقي مصر هي العشق دائما ... لو كان من شروط الجنسية في العالم الانسلاخ من أحد مقومات ومعتقدات الفرد لما وجدنا أحد يكتسبها وهو كذلك للوطن ... وعند الشدائد لن تجد الا من عشق التراب يدافع عن ارضة فكتساب الجنسية بنهاية المطاف مصلحة لشخص
المواطنة هي البذرة التي تنبت الوطن
كم نحن بحاجة الى من يقرأ ويعي هذا الكلام الهام والحساس خصوصا بعدما قامت الحكومة بسحب الجنسية من عدد من المواطنين الشرفاء الذين عبّروا عن آراءهم في خطوة منها لتحذير وتكميم أفواه من يحاول أن يحذو حذوهم (محرقي/حايكي)