تحدثنا قبل يومين عن سورية. كنا نتساءل: كيف انفرط عقد السلاح في هذا البلد، من كونه محصوراً في يد الدولة إلى وجوده في يد قوة منافسة على الأرض ذاتها. ثم أشرنا إلى ضرورة توسيع صورة المشهد السوري لكي ندرك السبب وراء ذلك جيداً.
وقلنا، أن وجود نظام سياسي مغلق يحكم في دمشق، ثم بقاء هذا البلد كأحد بقايا الحرب الباردة، بانحيازه إلى الكتلة الشرقية «في العموم»، وأخيراً عدم تسويته للصراع مع «إسرائيل»، كانت كلها عوامل أساسية، دفعت الغرب لأن يقرر الإجهاز على هذا النظام مع حلول فرصة الربيع العربي.
اليوم نكمل قراءة المشهد السوري في نهايته. فما بين شقوق الظروف الثلاثة التي ذكرناها، بدأت الأزمة السورية ونَتَجَ على إثرها بروز أطراف متعددة (وليس الغرب وحده) ولكن ذات أهداف متعددة أيضاً، على رغم أن جزءاً كبيراً من تلك الأطراف هي حليفة فيما بينها.
الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وقفوا مع التغيير في سورية لحساباتهم الخاصة المتعلقة بروسيا و «إسرائيل». ففيما خصَّ الملف الروسي، فهم أرادوا ضرب آخر قواعد موسكو في المنطقة، وبالتحديد شرق المتوسط، ثم تشجيع الصراع الديني من بوابة حدودها الجنوبية.
أما ما يخص «إسرائيل»، فهم سعوا إلى عزل سورية عن حزب الله ولبنان، ثم عن الفصائل الفلسطينية المسلحة في غزة، وتفكيك آخر ما تبقى من خطاب سياسي مناهض لإسرائيل، وذلك لقطع الوريد اللوجستي الممتد من إيران عبر سورية إلى لبنان وفلسطين.
تركيا وقفت مع التغيير لإضعاف إيران في سورية، لتعويض ضعفها هي في العراق ولبنان، وكسر الهلال الممتد من إيران وحتى منطقة الشام، ثم لتطويق الخطر الكردي في الجنوب، وحسم مسألة الترانزيت العامرة شرق المتوسط والخط التجاري القادم من الأرض التركية باتجاه الخليج العربي.
أيضاً، هم سَعَوا إلى تعزيز حضور جماعة الإخوان المسلمين في سورية، لضمان وجود حليف استراتيجي لتركيا بعد مصر وتونس، وتعويضها عن خسارة ليبيا، ثم تشكيل مثلث جغرافي ديني، يسهِّل للأتراك ولوجهم السياسي للمنطقة العربية بتفويض عربي ممزوج بنزعة دينية.
كذلك اجتمعت الرغبة التركية مع رغبات أخرى إقليمية ودولية للحصول على قاعدة شرق المتوسط بعد حصولهم على قواعد في جنوبه (ليبيا وتونس)، وأيضاً على إطلالة عبر كُوَّة قناة السويس في مصر، حيث سيساعدهم كل ذلك على الوصول إلى نقاط توزيع الغاز سواء عبر الأنابيب (وبالتحديد عبر سورية ثم إلى تركيا وصولاً إلى أوروبا) أو من خلال البحار بصورة أكثر فاعلية، فضلاً عن إقامة تجمُّع للحلفاء «الأقرب» تتخطى عوائق الحدود المجاورة والمعيقة.
هذه الخارطة الخارجية «الداعمة» للتغيير في سورية تبدو أنها تسير في اتجاهات متعددة. ولأنها كذلك، فقد أوجَدَت تباينات مع القوى السورية المعارضة الطامحة للتغيير، والتي وجَدَت صعوبة في مواءمة برامجها مع ذلك التعدد الخارجي، لكن أجزاءً من تلك المعارضة سارت مع تلك المصالح، وبالتحديد مع مسألة العسكرة للثورة السورية، التي كانت هي الأساس في توليفها.
كل هذه الخارطة الممتدة من الخصوم، والمجتمعة حول منظومة هائلة ومتباينة من المصالح، جعل من برنامج التغيير بالنسبة لها راديكالياً بالسرعة ذاتها التي تتطلبها مصالحها كلٌّ على طريقته. فالتغيير الذي يطمحون إليه في سورية هو بحجم «تدخل عسكري غير مباشر»، وذلك لإسقاط النظام في دمشق بصورة أسرع وبأقل التكاليف. فالمعركة على الأرض السورية، والمقاتلون سوريون، والضحايا أيضاً سوريون. ومن هنا بدأت ساعة الصفر. وقد استجابت الأجواء الداخلية والخارجية في سورية لذلك الجنوح نحو العسكرة، وفقاً للأسباب الثلاثة التالية:
أولاً: السوريون وطبقاً للنظام العسكري المطبق لديهم، يلزم جميع المواطنين الدخول في تجنيد إجباري، حيث يخدمون في الجيش والثكنات. وقد مكَّن ذلك المعارضين لنظام الرئيس بشار الأسد، لأن يتمكنوا من حمل السلاح بدراسة وفنون حربية عالية الدقة، وخصوصاً أن الجيش السوري يمتلك نظاماً تدريبياً مشابهاً لأساليب الجيش السوفياتي (سابقاً). وقد بيَّنت الأنباء الواردة من سورية، أن العديد من المسلحين هم بالأصل مدنيون، ولكن لديهم خلفية عسكرية تولَّدت لديهم من خلال التجنيد العسكري الإلزامي.
ثانياً: المجتمع السوري هو مجتمع متنوع في إثنياته وأديانه وطوائفه، وهذا النوع من المجتمعات سهل الاختراق، وخصوصاً أنه مجتمع شرقي في نهاية الأمر، وبالتالي الحالة العلمانية فيه غير مترسِّخة وجدانياً وفكرياً. بل حتى المجتمعات العلمانية غير آمنة على صيغة إثنياتها وأديانها كما نراه موجوداً مثلاً في روسيا أو سويسرا وهولندا وإسبانيا وحتى الولايات المتحدة. هذا الأمر جعل من استخدام اللغة الإثارية في الإعلام الخارجي الموجَّه للغرائز الفردية والجماعية رائجة، في تشطير جزء من المجتمع السوري، وجعله يلتفت إلى هوياته الفرعية (سُني/ درزي/ علوي/ مسيحي/ إسماعيلي/ كردي)، وبالتالي الانحياز لها والقتال من أجلها ضد القيمة الوطنية الجامعة.
ثالثًاً: أدرَك المجتمعون على المصالح المتغايرة، أن الحدود بين الدول لا يمكن ضبطها إلاَّ بتراضي الطرفين، وعندما يُخِلُّ أحدهما بهذا الشرط، تصبح الحدود غير آمنة (المغرب والجزائر - الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك مثالاً). هذا الأمر دفع تركيا لأن تخلِي يدها من ضبط الحدود مع جارتها سورية، لتسهيل عبور المقاتلين، المتدفقين من مخيمات اللاجئين السوريين ومن المنشقين عن الجيش السوري فضلاً عن المقاتلين العرب والأجانب، وكميات السلاح.
هذه الأسباب الثلاثة، هي في الحقيقة، الأسباب الرئيسية لانفراط عقد القوة المادية، وخروجه عن حصرية امتلاك الدولة السورية له لصالح أطراف أخرى موجودة خارجها.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3736 - الأربعاء 28 نوفمبر 2012م الموافق 14 محرم 1434هـ
علي نور
لكنه من هوان الدنيا على الله ان جعل بين ضهرانينا سيد ينظر بعين الله فيحدثنا بافضل الكلام فلا يستعمع البعض له لماذا ؟ تارة تحت عنوان الاستقلال في الراي وتارة اخرى بعنوان محاربة الاستبداد وفي كلتا الحالتين خسارة لهم لانهم ببساطة يتم استعمالهم ادوات لسفك الدم الذي حرم الله ان يسفك ،وكان غشاوة على اعينهم لكن لا تعمى العيون بل القلوب التي في الصدور . نطلب من صحفيينا ان لا يكونو خنجر في ايدي اعداءنا علينا وان يكفون الناس شرورو اقلامهم فرب كلمة واحدة لها اثر مئة رصاصة قاتلة.
صدقت مقولة أن العرب لا يقرأون وإذا قرأوا لم يفهموا
البعض يعتقد بان اثبات وجود تحالف خارجي ضد سوريا يعني نفي وجود الثورة السورية وهذا البعض كذلك يعتقد ان الكتابة عن الثورة السورية يعني نفي التحالف الخارجي ضد الاسد وان الكتابة عن ذلك التحالف الخارجي ضد نظام بشار الاسد يعني نفي الثورة السورية وهو ما ينطبق على الزائر الثاني !! مو صح يالحبيب
تضحكني التعليقات
كثير من المعلقين يظنون الأستاذ محمد جاهلاً بالوضع السوري بينما هم يتقلبون على ظهورهم و بطونهم في فهمه . الكل يريد ان يروى روايته و يتجاهل الواقع ، لذلك عندما يأتي انسان محايد مثل الأستاذ ليشرح الوضع ، يخرج ذوو الأجندة من الطرفين ليعترضوا فالحقيقة تزعجهم وتقض مضاجعهم و السلام.
علي نور
الى (مؤسف الإدراك المتأخر), لا يا سيدي ابدا لم يدرك الكاتب خطاه متاخرا بل كان يعلم علم اليقين ما كان يقول ويكتب ، ان هي الا سمة العرب في مقاربة مشاكلهم على قاعدة انا وعدوي على اخي هكذا علمنا تاريخهم ، لكن ليس المهم ما كان الكاتب (وهو بالمناسبة كاتب عزيز جدا علينا) يعلمه من خطاه بل ذلك الاثر الذي تركه مقاله او قل مقالاته على الابرياء من السوريين الذين اصبحت دماءهم تجارة رابحة تارة بعنوان الاستقلال واخرة بعنوان محاربة الاستبداد وبين ضهرانيهم السيد الذي لو استمعو له لنجحوا يتبع
مؤسف الإدراك المتأخر
أخي محمد
ادراكك لحقيقة ما يجري جاء متأخرا وكأنه نابع من وخز الضمير. فقد استمريت تساند ما أسميته ثورة وهو في الحقيقة مؤامرة كبيرة تم استغلال النزعة الطائفية في احداثها.
نصيحة: لا تسعى لاسترضاء الأعداء خصوصا وإلا ستستمر تتعثر. كذلك لا تتعامى عن رؤى كبار كنصر الله تحت مزاعم استقلال قلمك، وإلا فلن تسلم من كبوة قاتلة مستقبلا. فقط تأنى قبل أن تعارضه، لأننا لم نعهده ينطق من هوى.
سؤال لاصحاب الضمائر فقط
في العراق بعث وفي سوريا بعث وفي العراق ديكتاتورية وفي سوريا دكتاتورية وفي العراق تدخل امريكي واسرائيلي وفي سوريا تدخل امريكي واسرائيلي لكن اريد افهم شيء واحد: كيف كانت تسمية دخول الامريكان العراق تحرير وإن بغداد صارت ممانعة وفي سوريا خايفين من الامريكي وخايفين من سوريا اتصير عميلة؟
سياسة الكيل بمكيالين
أحسنت...أتفق معك بقوة
علي نور
وبرغم كل ما ذكرته في مقالك هذا عن التدخل الخارجي واعترافك متاخرا به، فقد انكرت كثيرا في مقالاتك السابقة (وانا متابع جيد لمقالاتك) على السوريين قولهم بانهم يتعرضون لحرب واتهمتهم بالكذب حتى في نشرات الاحوال الجوية والاكثر انك اسميت ما يحدث بانها ثورة بل وتبرعت بمقالات النصح والارشاد لها كي تنتصر، جماعات مسلحة مدعومة من امريكا واسرائيل اسميتها ثورة، مؤسف جدا ان نجد البعض من صحفيينا الاعزاء يناصرون اعداءنا ولو بمقال .
ستنتصر
الأخ محمد .
سوريا التي احتضنت الفلسطينيين والعراقيين من الأنبار وديالى وصلاح الدين بالعراق واحتضنت اللبنانيين وجميعهم بالملايين ستنتصر في نهاية المطاف حول وسترى