ما هو الوطن؟ بيتك الفسيح المفتوح على جهات الله وهوائه وقضائه وقدره وبشره الطيّبين.
ما هو الوطن؟ مأوى لا تتعامل معه باعتباره غرفة فندقية تدفع أجْرتها اليوم لتغادرها غداً، ولا يهمّ كيف تغادرها، من نافذة الغرفة عبر الشراشف انحداراً إلى مهْرب؛ لأنك لا تملك الأجْرة، أو عبر البوابة الرئيسية محاطاً بالمهابة لأنك لم تنسَ عرْض أنك أكثر أهمية من صاحب الفندق نفسه.
ما الوطن؟ ألاّ يدفعك إلى الإصابة بحنين قاتل يودي بك إلى مساحة المتر أو يزيد قليلاً، ذلك الذي لن ينجوَ منه أحد. حنين في تجاهل موت شبه لحْظي يدفع صاحبه إلى تجرّع اختبار المرور بتجربة الموت وجهاً لوجه.
ما الوطن؟ ألاّ يكون لك موضع ركون في سعَة أو ضيق سواه؛ ولو كان بحجم سمّ الخَيَاط.
ما الوطن؟ أن تخاف عليه من دون أن يمْسَسْك خوف على نفسك. خوفك عليه طمأنينة لك. خوفك منه رعب وتقويضٌ لكل سماواته التي أعْليتَ في خاطرك وتصوّرك ورهافة حسّك حتى وأنت تساق إلى مسالخ الإهانة وتفتيت القيمة التي يعيش أحدهم فصول توهّمها وقدرته على تحقيقها.
كلٌّ يذهب في انشغاله ويسهو. كل مشغولٌ بتفاصيله الكبيرة والمهمّة والتافهة أيضاً. كثيرٌ منا منشغلٌ ومنهمكٌ بالتافه من تلك التفاصيل. ربما لأن العصر بأداء بشره، وازدحام الثانوي فيه على حساب المصيري يؤكد ويجعل منه أهلاً للتفاهة. في النهاية لا يمكن لعَدَم أن يدّعي القدرة على إحياء جماعيّ لكل موتي الأمم الذين مازالوا يتنفسون ويمشون في الأسواق ويقبّلون أطفالهم وزوجاتهم قبل الذهاب إلى العناء أو أمر آخر. والحكاية في الأمر الآخر أيضاً!
وُجدت الأحضان والأوطان للانشغال بالحياة لا الانهماك بالموت. وُجدت الأوطان كي لا يشعر المرء بيتْم يطوله في سنّة الحياة لتتكفّل الأوطان بامتصاص ذلك الشحّ العاطفي الشخصي بغنى ووفرة التفات وتعهّد والتزام وسهر وتتبّع.
حيوية أي منا بحيوية المجال الذي يتحرّك ويتنفس ويحتجّ ويقهْقه ويسخر فيه، ولا يبالي أحياناً، ضمن تفاصيل لن تمسّ عصب وروح ونبض المجال الحيوي ذاك.
لن يعرّش ويمتد ويتجذر حضور في أرض سبخة؛ أو الجدْب أول الملامح الدّالة عليها. ولن تجد بشراً في أرض كتلك ينعمون بفائض من حيوية والصحة والانتباه أو حضور بديهة. في الجدب لا بديهة يمكن التعويل عليها. إنها بديهة المتاهات وبديهة الضياع وبديهة الذهاب إلى اللاجهات، والبحث عن اللاشيء.
كم نفتقد الانشغال بالحياة في ظل إشغالنا بكل ما يدل على الموت أو ما يؤدي إليه؟ كيف للأوطان أن تتمدّد وتستعرض طاقاتها وإمكاناتها وقدرتها على الفعل والحضور بثقل في مهرجانات الاستعراض. استعراض: «اقرأ كتابك»، في ظل هوَس في كتم كل ما يدلّ على التجاوز في حدود التنفس، وفي حدود أن يمارس مران فتح فمه كما صمّم وأريد له أن يكون مفتوحاً؛ لا لملء صراخ معدته؛ بل لتجنّب غضب كرامته والإهانة التي لن يكون مخوّلاً بأن يمررها مرة ومرتين وثلاثاً، في ظل تجنّب الاعتراف به أساساً كي يمارس فتْح الفم أو تجاوز ذلك إلى طموح أكبر: أن يغضب لكرامته من دون أن ينتظر إهانة تذكّره بذلك.
الأوطان ليست مياهاً وتراباً، ليست جبالاً وودياناً وسهولاً ومجاهلَ، وظاهراً وباطناً. إنها تتجاوز ذلك بكثير، ومع ذلك التنوّع يُراد له أن يمسّ الجمادَ من المكان، من حيث هو هيئة مكان، ويتم الترويج له والتصدّي للتعريف به والدخول به في استعراضات مفاخرة تتماشى مع طبيعة هذا القرن؛ وإلا تطلّب ذلك في قرون غابرة أن يكون عرْضة لأكثر من داحس وغبراء، ولكنه لا يراد له أن يمتدّ ويسري إلى بشر ذلك المكان بكل تنوّعهم الطبيعي والفطري. يُراد لهم أن يكونوا تبعاً لما يرتئيه القابض بزمام الأمور. أن يكونوا على هيئة ووتيرة ورتم صوت وملامح واحدة، واستئناس بالوضع والتماهي معه، والدعوة إلى امتداده إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
أن يكونوا مشاريع قبور أكثر منهم ولادات. مثل ذلك النظر إلى الأوطان هو الذي يجعل من الولادات مشاريع موت جماعي، ويجعل من التفكير ضرباً من الانتحار والذهاب إلى العدم بشهوة بالغة. الإنسان في هكذا أوضاع ووصفات إجبارية لا يمكن الخروج عليها، بطبيعة السياسات واختطاف روح وملكَات الإنسان، لن يكون في أي وقت من أوقات تلك الأمكنة إلا شبحاً عابراً لن تشعر بحضوره إلا الأشباح والمخلوقات الوهمية؛ أو التي يُراد لها أن تكون كذلك.
كيف لأوطان أن تثبت حضورها ووجودها في عدم الدّالين عليها ومن هم أساساً عنوان ومضمون وضرورة وجودها؟ الأوطان تُرى باكتظاظها بالإنسان فاعلاً متحرّكاً باعثاً للروح فيها. الأوطان لا تدل على ساكنيها من بني البشر؛ بل البشر هم في الصميم والمدخل للتعريف بها، والذين يقولون خلاف ذلك يعانون من ذبول وانشغال بموتهم الخاص والضروري في الوقت نفسه!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3736 - الأربعاء 28 نوفمبر 2012م الموافق 14 محرم 1434هـ