احتدمت المناقشات واختلفت الآراء خلال جلسات المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا (14 – 25 يونيو 1993). وقد برزت خلال جلسات المؤتمر عدة قضايا، ليس أقلها قضية البوسنة والهرسك، والقضية الفلسطينية. كما كان للدول الآسيوية طرحها الخاص بالنسبة لقضية حقوق الإنسان. مندوب "العالم" حضر جلسات المؤتمر وأرسل التقرير التالي:
وأنت تهم بدخول قاعات مجمع "مركز النمسا" الكبير تستقبلك فرقة راقصة للهنود الحمر تتكون من رجال ونساء وأطفال لا يحجبهم عن ضوء الشمس سوى قطع من الجلد والريش موزعة على الناطق الرئيسية من الجسد. ولا تكاد تخترق الصفوف وإذا باعتصام لإحدى المجموعات رافعة شعارات تنادي بإطلاق سراح بعض المعتقلين وتندد ببعض الأنظمة. وعند وصولك إلى قاعة الاستقبال فانك أمام خيارين: أما حضور الجلسات الرسمية التابعة للأمم المتحدة (إذا كنت مسجلا ضمن أحد الوفود الرسمية أو غير الحكومية) أو النزول إلى الطابق الأدنى حيث اجتمع ممثلو أكثر من 1300 منظمة غير حكومية ليعرضوا قضاياهم ويتداولوا مختلف المواضيع المتعلقة بحقوق الإنسان.
ولا تستغرب إذا وجدت أن البلد الواحد قد تمثله عدة منظمات وضعت كل واحدة منها أدوات عرضها وتوزع مطبوعاتها المضادة للأخرى. فمثلا عندما كان أنصار الحكومة الكوبية يعقدون اجتماعا لمناقشة انتهاك الولايات المتحدة لحقوق الكوبيين من خلال الحصار الاقتصادي كانت إحدى الفتيات الكوبيات توزع منشورا مضاد للحكومة الكوبية.
الظالم والمظلوم، الحقوقي والسياسي، المرأة والرجل، الحكومي والمعارض كلهم اجتمعوا تحت سقف واحد يناقشون قضايا متعددة الأطراف يختلف كل واحد منهم مع الآخر ويتفق في الآن ذاته. منهم من يدعو لحقوق أساسية، ومنهم من حصل على حقوقه الأساسية ويطالب بالمزيد.
وهذا المؤتمر يعتبر فريدا من نوعه في مستوى التطارح الفكري. فالجلسات الرسمية تم الإعداد لها مسبقا وتم تحديد اتجاهات الحوار فيها، وتشكلت مجموعات إقليمية تمثل أميركا الجنوبية، إفريقيا وآسيا ومجموعات أخرى، تداولت القضايا التي سيتم تطارحها من قبل الوفود.
المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان بدأ أعماله في 14 يونيو/ حزيران الجاري (1993) ويستمر لمدة أسبوعين، وهو المؤتمر الثاني بعد مؤتمر طهران الذي عقد العام 1968. ويأتي المؤتمر بعد عام من انعقاد أكبر مؤتمر قمة في ري ودي جانيرو بالبرازيل العام الماضي وناقش موضوع البيئة والتنمية. وسينعقد العام القادم (1994) مؤتمر عالمي في القاهرة حول مشكلة السكان والتنمية، وفي العام 1995 سيعقد مؤتمران عالميان آخران أحدهما في بكين حول المرأة، والآخر في كوبنهاغن حول التنمية الاجتماعية.
ويأتي انعقاد هذه المؤتمرات العالمية بعد انتهاء الحرب الباردة ودعوة البعض لإقامة نظام عالمي جديد يقوم على مبادئ إنسانية يتفق عليها الجميع من أجل تحقيق السلام الدولي الذي تنشده منظمة الأمم المتحدة.
قبل أن تبدأ أعمال المؤتمر الرسمية أقامت المنظمات غير الحكومية ندوة عالمية بدأت يوم الخميس 10 يونيو/ حزيران 1993 لتنظيم وتنسيق نشاطات المنظمات أثناء المؤتمر. والمنظمات غير الحكومية هي المجموعة التي تتشكل بصورة طوعية للدفاع عن قضايا محددة كالدفاع عن حقوق الإنسان. ولابد لهذه المنظمات من الحصول على الصفة الاستشارية في الأمم المتحدة لكي تتمكن من المشاركة في الأعمال. وبالرغم من الجهود التي بذلتها المنظمات غير الحكومية للسماح لها بالمشاركة في صياغة مشروع البيان الختامي للمؤتمر إلا أن حكومة 80 دولة (من بين مجموعة 183 دولة) صوتت على إقصاء المنظمات غير الحكومية حتى من حضور القاعة للمراقبة. وهو الأمر الذي اعتبرته المنظمات غير الحكومية بمثابة الاهانة.
وقد أثبتت الحكومات قدرتها على التدخل عند الحاجة، فقد فرضت الصين رأيها ومنعت الزعيم الروحي للتيبت (دلاي لاما) من ألقاء كلمته أمام المؤتمر. كما لم تستطع أمانة الأمم المتحدة توزيع تقرير أعدته عن برنامجها النوعي الذي نفذته في السلفادور حول مراقبة أحوال حقوق الإنسان هناك.
من جانب آخر أثبتت المنظمات غير الحكومية قوتها في عدد من المواقف. فمثلاً عندما حاول الرئيس الأميركي السابق ألقاء كلمة أمام ندوة المنظمات يوم السبت 12 يونيو/ حزيران 1993، قامت مجموعات أميركا اللاتينية بألقاء الهتافات المضادة لكارتر والولايات المتحدة، تعبيرا عن سخطها للاختراقات الأميركية لحقوقهم. وقد حاول كارتر الدفاع عن نفسه لاحقا عندما صرح: "حاولت أن أوضح أنني لم أحضر لا مثل حكومتي لأنني اختلفت معها بشدة وأدنت سياستها تجاه حقوق الإنسان خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية".
اعتراضات دول آسيا
وقد احتل موضوع شمولية مبادئ حقوق الإنسان موقع الصدارة في المداولات التي جرت قبل وأثناء انعقاد المؤتمر. ويرجع السبب في ذلك إلى النظرة التي توليها لها الدول الصناعية الغربية والدول التي لديها ثقافات مختلفة. ولاشك أن المشكلة تكمن في الاختلاف حول تعريف الحقوق ومعنى الحرية. فالنظرة الغربية تركز على حرية الفرد من أي ضغوط خارجية لتوجيه سلوكه، لأن المرء له الحق في اختيار ومن أجل ضمان حرية المرء في الاختيار فإن الإنسان – بصفته إنسانا – يملك حقوقا طبيعية غير قابلة للنقاش أو التنازل. وهذه الحقوق الطبيعية تختلف عن الحقوق المدنية، التي تستوجب أن ينص عليها الدستور أو القانون في البلد المعين. ومن هنا فإن النظرة الشمولية للحقوق الطبيعية تؤمن بأن هذه الحقوق عالمية، وهي حق لكل شخص بغض النظر عن لونه وجنسه وموطنه. وتقوم الحقوق الطبيعية على حقيقة نزوع الإنسان وتوقه للحياة بكرامة واحترام.
والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة العام 1948 ينص في مواده الثلاثنين على جملة من الحقوق الطبيعية، مثل الحق في الحياة والحرية والأمن من العبودية والتعذيب وسوء المعاملة، وجملة أخرى من الحقوق المدنية والسياسية كحق الإنسان في المواطنة والمحاكمة عادلة (عند التهمة) والمشاركة في إدارة شئون بلاده والزواج وغيرها. وتم تعزيز الإعلان العالمي بإصدار بروتوكولين العام 1966 أحدهما عن الحقوق المدنية والسياسية والآخر عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وتشمل الأخيرة حق الفرد في العمل واختيار نوعية العمل والحماية من البطالة والضمان الاجتماعي، بالإضافة لحقوق الأمهات والأطفال في العناية. وتشمل أيضاً الحق في التعليم والمساهمة الحرة في الأنشطة الثقافية.
وتعتبر الحقوق التي نص عليها الإعلان العالمي والبروتوكالات مكملة لبعضها الآخر دون تجزيء. إلا أن مجموعة دول آسيا طرحت الموضوع من زاوية أخرى. فبالغرم من إقرار المجموعة الآسيوية بهذه الحقوق وعدم انفصالها عن بعضها البعض، فإنها تركز على أهمية التنمية كأولوية أساسية لتحقيق حقوق الإنسان. فالشخص الجائع لا يمكنه الاختيار. كما أن التطرف في الحقوق الفردية ونسيان الحقوق الأخرى الخاصة بجوانب هامة مثل "العائلة" التي تعتبر الخلية الأساس في المجتمع والحقوق التي تنتمي لثقافات عريقة ومختلفة القبول به. وعلى هذا يفسر التفكك العائلي في الغرب بسبب تطرف الغرب في الحرية الفردية.
والدول الآسيوية تتهم الغرب بالازدواجية في طرح المفاهيم وتتحرج من المصادقة على عالميتها المطلقة خوفا من أن تقوم الولايات المتحدة وحليفاتها باستخدام "شرعية دولية جديدة" للتدخل في شئونها الداخلية من أجل الهيمنة أو عندما تتعرض المصالح الغربية للخطر ومن أجل ذلك يوردون الأمثلة الكثيرة للازدواجية في الموقف الغربي.
فعلى سبيل المثال كانت بريطانيا والدول الغربية تساند الدكتاتور باندا الذي حكم ملاوي زهاء 30 عاماً بالحديد والنار لأنه كان الوحيد من القادة الأفارقة الذين لم يقاطعوا جنوب إفريقيا. ولكن عندما انتهت الحاجة لذلك – بسبب التغييرات في جنوب إفريقيا – ضغطت هذه الدول على باندا للإفراج عن المعتقلين السياسيين والسماح باستفتاء حول التعددية السياسية والديمقراطية وربطت المساعدات بشرط إجراء الاستفتاء. وبالفعل أجري الاستفتاء في منتصف يونيو/ حزيران الحالي وخسر باندا من جراء ذلك.
من جانب آخر فإن الدول الليبرالية تتهم الدول الآسيوية بإعطاء الأولوية للتنمية لتغطية خرق الحقوق الأساسية (الطبيعية) لمواطني تلك البلدان. ويعتبرون الادعاء بالخصوصية الثقافية محاولة سياسية للاستمرار في النهج الدكتاتوري الذي لا يلائم التطلع العالمي للديمقراطية والانفتاح والتعددية السياسية في التسعينات.
فوزير الخارجية الايرلندي مثلا قال في كلمته أمام المؤتمر "إن ايرلندا لا تقبل أبدا بالمبدأ القائل باسبقية التنمية على حقوق الإنسان. نحن لسنا مع تسييس حقوق الإنسان للتدخل في الشئون الداخلية، ولا نوافق على أن يفرض الشمال قيمه على الجنوب. إن التنمية مهمة ولكن التعذيب والتمييز مسائل تتعلق بالصبح والخطأ ولا يمكن الإقرار بالخطأ".
في المقابل طرح الرأي الآسيوي عدد من المتحدثين بينهم وزير خارجية إندونيسيا الذي قال "إن آسيا وعلى مر القرون شاركت بثقافتها وحضارتها، وأننا كأعضاء فاعلين في الأمم المتحدة لا نرى أي تضارب بين عالمية مبادئ حقوق الإنسان وتركيز الدول الآسيوية على ربط هذه الحقوق بالواقع الاقتصادي والاجتماعي، وأننا لم نأت هنا لنواجه حقوق الإنسان أو لنطرح مبادئ جديدة".
المفوض السامي
الحد الفاصل بين من يؤمن بأحد الطرحين هو فيما إذا أقر الاقتراح الداعي لتعيين مفوض سام لحقوق الإنسان. والمفوض السامي سوف يكون نظير المفوض السامي للاجئين ويعني ذلك أنه ينوب عن الأمين العام للأمم المتحدة ولديه سلطات تنفيذية واسعة تمكنه من التصرف بإمكانات الأمم المتحدة بصورة فورية دون الحاجة للرجوع للجان أو سلطات أعلى لاتخاذ القرار. وهذا يعني أن بإمكان المفوض السامي أن يمارس نشاطا قد يغضب بعض الدول فيما لو قدر أن هناك اختراقا لحقوق الإنسان. والمفوض السامي سوف يحتاج لممثلين إقليميين وإمكانات أوسع وميزانية تفوق الميزانية الحالية التي تقل عن 1% من ميزانية الأمم المتحدة. كما أن المفوض السامي سيمكنه التدخل لحماية أعضاء المنظمات غير الحكومية الذين يعملون من أجل حقوق الإنسان.
وكان بطرس غالي قد أدلى بتصريح للهيرالد تريبيون الدولية عشية انعقاد المؤتمر العالمي فهم منه أنه يقف ضد زيادة البيروقراطية في الأمم المتحدة الأمر الذي فسره البعض على أنه يوحي بعدم رغبته في تعيين مفوض يقوم بمهام الأمين العام في اتخاذ القرارات اللازمة لحماية حقوق الإنسان.
وتتساءل بعض الدلو الآسيوية هل سوف يمكن لمثل هذا المفوض أن يتدخل لحماية شخص تنتهك حقوقه في الولايات المتحدة أم أنه سوف يستخدم كذراع ضاربة ضد الدول غير المرغوب فيها؟
البوسنة والهرسك
في الوقت الذي يناقش المؤتمر المواضيع المتعددة الخاصة بحقوق الإنسان فإن هناك حقا سياسيا أقرته الأمم المتحدة وهو حق تقرير المصير واحترام سيادة الدول الأعضاء ينتهك بمرأى ومسمع الجميع. ليس هذا فقط، ولكن وبحسب تعبير الدكتور حارث سيلافتش فإن "شعب البوسنة محروم حتى من الدفاع عن نفسه" بسبب الحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة ولا يطبق إلا على مسلمي البوسنة الذين يعانون من التظهير العرقي ومن القتل والدمار واغتصاب النساء. لقد هز حديث وزير الخارجية البوسني مشاعر الحضور، ولذلك حفل باستقبال وتحية لم يحصل عليها غيره، فقد وقف جميع من في القاعات المملوءة بممثلي الحكومات وممثلي المنظمات غير الحكومية واستمر التصفيق الحار لمدة ليست قصيرة. فالوزير البونسي كان يستشعر الألم وهو يقول: "وهل تريدون قيام أمم متحدة أخرى للمقهورين" وواصل حديثه الذي بين فيه الازدواجية في التعامل مع القضايا والإهمال المتعمد الذي تعالج من خلال قضية البوسنة. وخلافا لما كان متفقا عليه من عدم ذكر أسماء محددة، فإن الوزير البوسني لم يجد بدأ من ذكر الصرب الذين يمارسون أبشع الجرائم، وأشار إلى أن المذابح مستمرة في الوقت الذي هو يتحدث فيه. وأن على الأمم المتحدة ولكي تثبت مصداقيتها أن تقوم بعمل بسيط جدا وهو أن "توقف المذبحة الجارية في غوراجدة الآن". وطالب بالعمل الفوري "اليوم، الآن" وإذا لم يحصل إيقاف المذبحة فلا تلوموا من لا يعتبر أي مصداقية ويخالف ما تدونه الأمم المتحدة.
وما أن انتهى وقف له جميع الحاضرين، حتى طلب ممثلو عدد من الدول الحديث (كوستاريكا، الأردن، الدومينيك، إندونيسيا، ماليزيا، باكستان، السعودية، إيران، الكويت، مالي، الجزائر، سوريا، السنغال، مصر، السفادور، المجر، لبنان، غامبيا، أذربيجان، النمسا) جميعهم يثنون على اقتراح إصدار قرار يدعو مجلس الأمن لوقف المذبحة في البوسنة. وأدى هذا إلى أن ترسل الأمم المتحدة 7600 جدي إضافي لحماية ست مدن يتعرض فيها مسلمو البوسنة للمذابح على أيدي الصربيين. وهذا العدد يعتبر إنجازا هاما لخطبة وزير الخارجية البوسني إذا ما قورن بالعدد الموجود قبل الخطبة وهو 9000 جندي.
ولكن يبقى أن ما عملته الأمم المتحدة لشعب البوسنة يقل كثيرا عما عملته في مناطق أخرى ولا يوجد تفسير واضح سوى ازدواجية القوى المسيطرة على السياسة والاقتصاد العالمي. وهو الأمر الذي تخشى منه الدول الأخرى عند الحديث عن إعطاء شرعية للأمم المتحدة ولكن مسألة تنفيذ القرارات تخضع للقوى التي تملك الإمكانات العسكرية والمادية، وهي أميركا والدول الغربية. وهذه الدول لا تقوم بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة إلا إذا كان ذلك يخدم مصالحها الخاصة.
ولهذا فإن بطرس غالي طرح مشروعا قبل فترة لتكوين قيادة عسكرية دائمة تابعة للأمم المتحدة تعتمد على وحدات عسكرية تتكون من 2000 جندي للوحدة وموزعة في أربعين دولة حول العالم. على أن يتم تدريب هذه القوات وإعدادها مناسبا لكي تستخدم عندما تحتاجها القيادة العسكرية الدائمة. ولكن مثل هذه المشروع الخاضع للدراسة حاليا تعارضه الولايات المتحدة التي لا تقبل أن يتلقى أي من جنودها أوامر عسكرية من غير القادة الأميركان.
القضية الفلسطينية
من يستمع إلى شمعون بيريز، وزير الخارجية الإسرائيلي وهو يلقي كلمته أمام المؤتمر يستغرب من الجرأة في تغيير الحقائق وخلط المواضيع. فقد أشار إلى أنه ومع "نهاية القرن العشرين فلا زلنا نشهد انتشار الاستبداد والنازية والفاشية والفقر، والقهر السياسي، وإراقة الدماء" وأضاف "أن التفريق الايديولوجي بين الشرق والغرب، بين حلفي وأرسو وناتو قد انتهى. وأن التفريق الاقتصادي بين الشمال والجنوب، بين الدول الصناعية والدول النامية، وبين الغني والفقير وبين الأبيض والأسود، قد انتهى. وأن التفريق بين العالم الأول والعالم الثالث لم يعد حقيقة، وأكبر دليل على ذلك التطور الاقتصادي الحاصل في جنوب شرق آسيا".
ومن هنا انطلق بدعوته للدول المحيطة بفلسطين لضمان "أمن إسرائيل" في مقابل "حكم ذاتي للفلسطينيين" وفتح الأسواق وتنمية الاقتصاد كما حصل في جنوب شرق آسيا. ولم يغفل أن يهاجم جمهورية إيران الإسلامية واصفا النظام الإسلامي "بالتعصب الديني والعنف". بعد ذلك أشار في مؤتمر صحفي إلى "أن العديد من الوفود العربية لازالت تخجل من مقابلتنا في العلن. ونحن نتقابل مع الوفود الفلسطيني الرسمي الحاضر في المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان". وعند سؤال عما إذا كان يقصد بذلك أيضا السيد ياسر عرفات، رفض التعليق. وكان قد دعا الدول العربية للعمل على "رفع الحظر الاقتصادي كما فعلت الكويت" مضيفا بأنه "لا يجب خلط الجوانب الاقتصادي بالصراعات القومية".
وعندما تحدث السيد ياسر عرفات في اليوم التالي أشار إلى أن العالم منقسم بين "القوة الاقتصادي العالمية من ناحية وعالم شاسع بسواده الأعظم يفصل بينهم عوامل الهيمنة والقوة والقدرة لصالح القوى الاقتصادية". وأضاف أن "هناك معيارين والإنسان دائماً ضحية للمعايير المزدوجة التي تستخدمها القوة السياسية بغض النظر عن ضحاياها، وهذا يفرغ عالمية حقوق الإنسان". و"لعل ما يجري وما جرى من سفك للدماء في الأراضي الفلسطينية المحتلة لا نصع دليل على ذلك". وأضاف "لقد قرر مجلس الأمن الدولي تحريم الإبعاد وكان آخرها قرار 799 الذي ينتظر كغيره الاستجابة والتنفيذ" وكذلك "قرار 465 الذي دعا لوقف الاستيطان، إلا أن إسرائيل ترفض الاستجابة وتتنكر وتخرج عن الإرادة الدولية بفضل تأثير الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأخرى مما يشجع إسرائيل على الاستمرار في سياساتها القائمة على العدوان وانتهاك حقوق الإنسان وتمردها على الشرعية الدولية".
وبعد ذلك توجه لأميركا القول "إن أميركا كشريك فاعل (في عملية السلام) نرجو أن تتذكر أننا (منظمة التحرير الفلسطينية) شريك كامل وكذلك نرجو أن تتذكر إسرائيل. وأقول لإسرائيل: إننا نمد أيدينا لهم لصنع سلام الشجعان، السلام العادل والأمن الشامل للجميع". وقد اعتبر المراقبون هذه الدعوة محرجة بالنسبة للإسرائيليين الذين يحاولون إبعاد ياسر عرفات عن طاولة المحادثات.
لقد طرح المؤترم قضايا فكرية – سياسية تتصل بحقوق الإنسان الطبيعية والمدنية. وتم طرح مبدأ "الحق في التنمية" كمبدأ مواز ومترابط للحقوق الأخرى. ولكن يبقى موضوع عالمية الحقوق الفردية والآلية التي تحتاجها الأمم المتحدة للتأكد من عدم انتهاكها في أي بقعة من بقع العالم، موضوعا شائكا. وقد حققت المنظمات غير الحكومية، على الرغم من إقصائها من لجنة صياغة البيان الختامي وحرمانها من المشاركة بصورة فعالة مع الوفود الرسمية في الجوانب الرسمية للمؤتمر، حققت هذه المنظمات بروزا دوليا سيؤهلها لشق طريقها في الدفاع عن حقوق الإنسان في العالم.
ويبقى على المفكرين الإسلاميين والشرقيين طرح المساهمات لتعزيز مبادئ حقوق الإنسان وسد التغرات التي يعاني منها، والتي تؤدي للتفكك العائلي مثلا واتساع المفاهيم للترف الحقوق كالمطالبة بالمساواة بين الشاذين جنسيا وغيرهم.
ولا يغفل أن مؤتمر حقوق الإنسان هو واحد من عدة مؤتمرات بدأت العام الماضي وستستمر حتى العام 1995 لبلورة مفاهيم دولية، ستأخذ صفة الشرعية الدولية مع مرور الوقت. وإذا كان مؤتمر التلوث البيئي العام الماضي (قمة الأرض) قد أحدث ضجة بالنسبة لاستحداث ضرائب لحماية البيئة وخشية البعض من فرضها دوليا، فإن المؤتمر العالمي لحقوق العادلة للأفراد والجماعات. في الوقت ذاته فإنه قد يوفر سلاحا آخر تستخدمه القوى الكبرى عند الحاجة.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ