تجرى العديد من البحوث السريرية أو الإكلينيكية حول العالم من أجل هدف رئيسي نبيل، وهو خدمة المجتمع ونفع البشرية.
تُعّرف البحوث السريرية بأنها مجموعة من التجارب التي تجرى بهدف تحديد فعالية أو مخاطر منتج طبي معين، سواء كان عقار أو دواء مخدر أو جهاز طبي أو تقنية تشخيص أو علاج. مثل هذه التجارب لا يمكن البدء فيها إلا بعد أن تتوافر معلومات كافية من التجارب الأولية في المختبر وعلى الحيوانات، وبعد موافقة لجنة أخلاقيات البحوث الطبية عليها.
يعتبر تاريخ البحوث السريرية قديماً جداً يعود إلى عصور الطب الأولى، وقد وضع كتاب «القانون في الطب» لابن سينا مجموعة من المبادئ التي اعتبرت النواة الأولى للضوابط التي تحكم البحوث السريرية:
أولاً: يجب أن يكون الدواء خالياً من الأعراض الجانبية الغريبة أو الاستثنائية.
ثانياً: يجب أن يجرب الدواء على مرض بسيط غير معقد.
ثالثاً: أن يجرب الدواء على أكثر من مرض فقد يظهر له أثراً غير متوقع على أحد الأمراض دون غيرها.
رابعاً: أن تتناسب قوة وفاعلية الدواء المجرب مع شدة ونوع المرض.
خامساً: يجب أن يلاحظ تأثير الدواء على أعداد كبيرة من المرضى حتى لا يكون التأثير الحاصل مجرد تأثير عرضي أو غير مقصود.
سادساً: يجب أن يجرب العقار على البشر، وذلك لأن تجربته على الحيوان قد لا تعطيء نفس النتائج المرجوة.
على مدى التاريخ البشري أجريت العديد من التجارب السريرية لمعرفة تأثير تقنية طبية أو عقار معين، وكان البعض يستخدم المساجين والمحكومين بالإعدام لإجراء مثل هذه التجارب. ففي العام 1721، قام ملك إنجلترا بمنح صكوك الغفران لأربعة مساجين خضعوا لتجربة لقاح مرض (الجدري) الذي كان طاعون العصر بحق، وكان الإصابة به تعني الوفاة، قبل أن تنتشر فكرة اللقاح ضد هذا المرض بصورة واسعة.
لقد تطورت التجارب السريرية تطوراً هائلاً وسريعاً في القرن الماضي، لذا كان من الضروري سن قوانين ووضع مبادئ تمنع استغلال الأقليات المستضعفة، وذوي الاحتياجات الخاصة، وتحد من استخدامهم كفئران تجارب في مثل هذه البحوث. من خلال الاطلاع على القوانين والتشريعات الحديثة الخاصة بمهنة الطب والبحوث الطبية، نجد أن هناك أربعة مبادئ عامة لكل تقنية أوعلاج أو بحث طبي وهي:
- الاستقلالية - Autonomy
- الإحسان- Beneficence
- عدم الإيذاء - nonmaleficence
- العدالة - Justice
بختصار، تعني هذه المبادئ أن يتمتع المريض أو المشارك في البحوث السريرية بالاستقلالية التامة في اختيار العلاج من عدمه، وفي نوعية العلاج ومدته، وفي الموافقة على المشاركة في البحث الطبي من عدمها. كما أنه من واجب الطبيب أو الباحث التأكد من أن الفائدة من العلاج أو البحث تفوق أي عوارض جانبية سيئة، وأن تكون فرص العلاج متساوية للجميع، بغض النظر عن اللون والدين والمذهب والجنس والعرق.
قبل الخضوع لأية تقنية تشخيصية أو علاجية أو المشاركة في بحث سريري يجب أن يوقع المريض على ورقة موافقة تسمى «الموافقة المستنيرة» أو (Informed Consent). مثلاً إذا أصيب شخص بأزمة قلبية نتيجة لانسداد في شريان تاجي أو أكثر، يستلزم ذلك إعطاءه عقاراً مذيباً للجلطة الموجودة في الشرايين التاجية والمتسببة في الأزمة القلبية. قبل إعطاء المريض مثل هذا العقار، يجب أن يشرح الطبيب للمريض فوائد العقار وأسباب اختياره وأن يخبره بكل الأعراض الجانبية المحتملة – وحتى النادرة منها – قبل أن يوافق المريض على أخذ هذا العقار. ولأنه لا توجد تقنية تشخيصية ولا علاجية بلا مخاطر، فعلى الطبيب أن يشرح للمريض المنافع والمخاطر، ثم يترك للمريض حرية الاختيار بناءً على موازنة المنافع ضد المخاطر وهذا ما يسمى بالاستقلالية، وتسمى الموافقة عندها بالموافقة المستنيرة؛ لأنها تكون مبنية على وجود المعلومات الكافية لدى المريض عن منافع ومضار العقار أو العلاج أو البحث واحتمال حدوث أي منهم.
لكن ما يحدث في الحقيقة، خاصة في عالمنا العربي، هو أن الطبيب يخشى أن يخبر المريض بالأعراض الجانبية والمخاطر الناتجة عن تناول عقار أو الخضوع لعلاج معين لخشيته أن يرفض المريض هذا العلاج. بالرغم من أن العديد من المرضى لا يحبون سماع الحقيقة كاملة، إلا إنه يجب إخبارهم بجميع المخاطر حتى تكون موافقتهم على الخضوع للعلاج مبنية على اختيار صحيح. على سبيل المثال، تسبب الصبغة المستخدمة أثناء عملية القسطرة القلبية والأشعة المقطعية لتدهور في وظائف الكلى عند بعض المرضى المعرضين لذلك، لذا يجب على الطبيب إخبار المريض بهذا الاحتمال قبل إجراء القسطرة أو الأشعة ليكون قراراه بالموافقة قراراً مستنيراً، وهذا أيضاً يخلي مسئولية الطبيب إذا ما حدث تدهور في وظائف الكلى بعد عملية القسطرة أو الأشعة المقطعية بالصبغة.
وبالنسبة للبحوث السريرية التي تجرى على البشر، فإن إعلان هلسنكي،الذي سنتحدث عنه في المقال المقبل، يضمن بشكل قاطع حق الفرد في إعطاء موافقة مستنيرة قبل المشاركة في أي بحث، وذلك دون ضغوط سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو مهنية، خاصة لدى فئات معينة يمكن استغلالها بصورة أسهل مثل الأطفال، وكبار السن، وذوي الاحتياجات الخاصة والمصابين ببعض الأمراض المستعصية.
مما سبق نرى أن البحوث الطبية السريرية، والتي تشمل تجربة دواء أو علاج أو تقنية تشخيصية أو علاجية على البشر، أمر ضروري ولا مفر منه، رغم احتوائه على مخاطر ومحاذير استلزمت وجود قوانين وتشريعات إقليمية ودولية تحد من هذه المخاطر، وتبعد شبح الاستغلال عن مثل هذه التجارب. في المقالات المقبلة سنستعرض أهم التشريعات التي تنظم البحوث الطبية وتحدد العلاقة بين الطبيب والمريض.
إقرأ أيضا لـ "نهاد نبيل الشيراوي"العدد 3733 - الأحد 25 نوفمبر 2012م الموافق 11 محرم 1434هـ
في ميزان حسناتك
شكرا دكتورة على هذا المقال العلمي الشيق، ونتمنى أن تكثرين من مقالاتك ليستفيد منها القارئ.
شكرا لكي
و انتي في القلوب يا دكتورة
كل الشكر والتقدير للطبيبة القديرة
أن كلمات الشكر قاصرة في حقك فشكرا شكرا لكم حتى ينقطع النفس
تحية
شكرا للدكتور الفاضلة نهاد على هذه المعلومات القيمة . والحقيقة أن العناية المركزة تحتاج إلى أمثالك من البارعين في هذا المجال
الدكتورة الفاضلة
وفقك الله وكوني كما انت معطاءة وقوية وثقي ان رصيد محبتك واحترامك زاد في قلوبنا