العدد 3731 - الجمعة 23 نوفمبر 2012م الموافق 09 محرم 1434هـ

ثقافة «مَنْ أنتم؟!»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ماتَ معمَّر القذافي وماتت معه «تندُّراته». قال وفَعَلَ أشياءً كانت محلَّ استغراب، وتهكُّم في أحيان كثيرة. أفعالٌ كان يراها هو أنها تنضح بالشجاعة، في حين أن آخرين لم يكونوا يرونها كذلك. أدمَى لندن بدعمه الجيش الجمهوري الأيرلندي، وحرَّض على تهريب المخدرات من أميركا اللاتينية إلى الجيش الأميركي لجعل الآلاف منه مدمنين. ثم وَرَدَ اسمه ضمن الذين فجّروا ملهى «لابيل» ببرلين، ثم طائرة بان أميركان فوق لوكربي. هو لم يدرك ما قاله المؤرخ الإغريقي بلوتارخ «ليست الشجاعة في المخاطرة بلا خوف، بل في الإصرار على قضية عادلة». من هنا أخطأ القذافي وبشدة.

أما أقواله فهي ليست بعيدة عن غرابة أفعاله. «من آداب النظافة غسل الماء قبل شربه»، هكذا قال. وحين كان يغادر رئيس دولة إفريقية ليبيا بعد لقائه به، كان يقول استخفافاً: «ذَهَبَ العَبد، أعطوه شيئًا»، كما يذكر ذلك نوري المسماري أمين جهاز المراسم العامة لديه. وعندما اندلع التمرُّد المسلَّح ضده، أطلق أشهَر كلماته: «زنقة زنقة» و»الجرذان» و»مَنْ أنتم؟!». والحقيقة، أن الأولى والثانية لا تحملان دلالة خاصة في المعنى، إلاَّ أن الثالثة هي ذات مدلول سياسي/ ثقافي سلبي.

«مَنْ أنتم؟!». إنها عبارة استعلائية بامتياز. عبارة تحتوي على الإلغاء والاستصغار والإنكار. وهي الأركان الأصليَّة للديكتاتورية السياسية. هذا الشعور الشوفيني بَرَزَ عند الزعيم الليبي معمَّر القذافي عندما فاضَ به كَيْل الحَنق على خصومه. قاله متمتماً به نطقاً، إلاَّ أن هذا التعبير لم يكن ليظهر على فَلَتَات لسانه لو لم يكن له بناءٌ داخلي في النفس وتركيبة محددة في التفكير. فاللغة ضوء العقل كما قال الفيلسوف جون ستيوارت ميل.

ورغم أن القذافي قد قال تلك العبارة، وانفرد بنطقها حصراً، إلاَّ أن الحقيقة، هي أن مثل هذا الشعور موجودٌ في العقل السياسي العربي في عمومه، وبالتحديد، في جهاز الحكم (كما هو حال القذافي). فكثيرون ممن هم في السلطة، لم يتفوَّهوا بهكذا حديث، إلاَّ أنهم يمارسونه على الأرض. هم مدمنون على التكبُّر أمام شعوبهم ويمارسون عملية إلغائها واستصغارها، وإنكار وجودها، بمعنى إنكار وجود حيِّزها العقلي، وتميُّزها وعطاءاتها، وفرادة آرائها وأفكار في أحيان كثيرة.

رجلٌ محدودٌ ومعدودٌ له ما لغيره من البشر، لكنه يعتقد بأنه الأسمى والأمضى من أيِّ أحد من بين ملايين شعبه، فهو لا يُؤيَّن بأيْن ولا يحويه مكان. هذا الشعور المتألِّه عند بعض القادة والزعماء، هو ما تترجمه تلك العبارة التي سنَّها «نطقًا» معمَّر القذافي: «مَنْ أنتم؟!». علينا جميعاً أن ندرك، بأن التاريخ والحاضر والمستقبل لا يصنعه مثل هذا الشعور المتغطرس، ولا الإحساس بالفردانية القاتلة، بل هي تكون بخفض الجانب وليْن العريكة والتشاركية، كما كان يفعل رسول الإسلام محمد بن عبد الله (ص) مع رعيَّته وصحبه، رغم كونه حاكماً للأمة كلها.

دائماً ما أتساءل: لو أن هؤلاء المتكبرين، الذين يحكمون اليوم بلداناً هي بحجم كانتونات صغيرة أو متوسطة من الجغرافيا، مقارنة بالإمبراطوريات العظيمة السابقة، ويمارسون كل هذا الإلغاء بحق شعوبهم، ماذا سيفعلون إذاً لو حَكَمَوا نصف الأرض كما حَكَمَها أعاظم الملوك كالإسكندر المقدوني، أو الإمبراطوريات الأوروبية القديمة في الوسط والجنوب؟ وعلى أي كيفية سيكون حال جبروتهم وتسلطهم وهم يرون الخَرَاج يأتيهم أينما أمطَرَت السماء؟ فثقافة الإلغاء عند هؤلاء تتمدَّد بتمدُّد السلطة وتوسُّعها؛ لأن العلاقة بين الأمريْن (الإلغاء والسلطة) هي علاقة طردية.

أمرٌ مهمٌ يمكن أن نفهمه خلال تفكيكنا لهذه النفسية المريضة. فكثيرٌ من السِّيَر الخاصة بهؤلاء الزعماء والحكَّام، بيَّنت أنهم كانوا فقراء ومعدمين، عانوا الأمرَّيْن في طفولتهم، وبعضهم كان من الحفاة، الذين قَسَت عليهم الحياة. وعندما انفتحت لهم أبواب السلطة والمُلْك، دخلوها بنشوة نصر مؤزَّر، وكأنهم في فتحٍ واستيلاءٍ على حصنٍ منيع، تكسَّرت حجارته على أيديهم، بعد معركة مصير. لذا تراهم وقد لبِسَهم الطغيان، وحِدَّة الطباع، وكأنهم في حالة انتقام تاريخية مع النفس ومع الاستضعاف وَجَبَ عليهم أن ينتصروا فيها وبقسوة.

أتذكر في هذا المجال، ما ذكره ابن عبد ربه في كتابه العقد الفريد، أنه «قيل لعبد الله بن الحسن: إن فلاناً غيَّرته الولاية. قال: مَنْ وُلِّيَ ولاية يراها أكبر منه، تغيَّر لها، ومَنْ وُلِّيَ ولاية يرى نفسه أكبر منها بَقِيَ كما هو». هؤلاء الحكَّام، يروْن أنهم أمام الحكم أجرام صغيرة لا تذكر، وأن كرسي السلطة هي أمرٌ عظيم، لذا، وعندما يصلون إليها لا يستطيعون أن يجتنبوها، بكل ما تنتجه من استعلاء، وشعور بالقوة، حتى تترسَّخ لديهم عقيدة أنهم والسلطة صنوٌ واحدٌ لا ينفكَّان. ومِنْ هذا المنطلق يبدأ لديهم الإحساس بالتمايز عن الآخرين، واعتماد لغة التابع والمتبوع، فتراهم يتفننون في إلغاء الناس واستصغارهم والاستعلاء عليهم. وفي غير مرة، كان البعض منهم يتحدث لخاصَّته، بأن إحدى وسائل التطويع لهذه الرعيَّة، هو تجويعها كي تتبعه طمعاً فيما بين يديه من نعمه، وإضعافاً لِهِمَمِها. وقد ذُكِرَ أن الخليفة المنصور قال لبعض قوَّادِه «أجِعْ كلبَك يتبعك، وسَمِّنه يأكلك، فقال له أبو العباس الطوسي: يا أمير المؤمنين، أمَا تخشى إنْ أجَعْتَهُ أنْ يُلوِّحَ له غيرُك برغيفٍ فيَتبَعَه ويَدَعُك».

إن اللغة السَّوية التي يجب أن تسود عند الحاكم هو الاعتراف بالناس وتبادل الرأي معهم وليس مخاطبتهم بـ «مَنْ أنتم؟!». والأكثر هو الشعور بالنسبية في فهم الأشياء، وتقييد الإطلاق (وهي الثقافة التي يمارسها فعلاً قادة مُقدَّرون هم محل احترام وتقدير) لكي ندرك بأن هناك آخرين يستطيعون أن يمنحونا رأياً سديداً لا يخلو من الحصافة وبُعد النظر.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3731 - الجمعة 23 نوفمبر 2012م الموافق 09 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 7:00 ص

      العيب ليس في القذافي

      مع ان موضوعك جداً مطول .. إلا أنني فهمت ما تقصد .. ولكن مهما فعله القذافي ألم تكن عيشة الشعب في أيامه مستورة أفضل من الان؟ التقيت باحد المواطنين الليبيين منذ أيام وقال لي مثل ما قلت وأكثر .. ولكن قال العيب مو في القذافي لوحده إنما أيضاً الشعب حيثُ أن الشعب طغى ولم يحمد الله في نعمه .. وكان يسرف بشكل لا يتصوره أحد .. أكثر من إسراف أهل الخليج في كل شيء .. ويقول إنما حصل لنا هو غضب من الله لاننا لم نشكره ونحمده على نعمه. وشكراً لكم

    • زائر 4 | 2:15 ص

      شعور بالدونية يظل يلازمهم فتراهم يطبقون عكس صحيح الاسلام

      حملهم ثقيل العادل منهم لن يفلت من حساب رب العباد فاين المشكلة لواعدلوا وطبقوا النظام على ابناءهم قبل العامة لكنه الصلف والغرور والظلم فعليه حسابهم في الدنيا قبل الاخرة.

    • زائر 3 | 11:43 م

      تلك المقولة التي قصمت ظهر البعير واخرجت الشعب عن بكرة ابيه

      اسلوب الفراعنة والجبابرة واحد في اي مكان وفي اي زمان فهؤلاء الجبابرة ان لم يكونوا يدّعون الالهية لانفسهم فإنهم يمارسونها على ارض الواقع فعلا وآية (ما اريكم الا ما ارى وما اهديكم الا سبيل الرشاد)هي منطق كل الجبابرة والفراعنة
      والحمد لله حكامنا العرب ضربوا اكبر الامثلة في ذلك فاين ما تاتي بسيرة زعيم عربي ستلقى فيها الكثير من هذه العجائب والمصطلحات. والحمد لله آخرها جابها عدل فقال نحن (نعاج) هكذا انزلوا العرب والعروبة الى تصبح في قائمة النعاج

    • زائر 5 زائر 3 | 3:11 ص

      مقال رائع

      مقال رائع وموفق فلعل الموجه لهم هذا الخطاب يتعضون.

    • زائر 2 | 11:42 م

      هؤلاء اقزام !!!!

      لانهم يرون انفسهم صغارا امام كل شي لذا تتولد لديهم عقدة النقص
      صدق الامام الحسين ع اذ قال:
      انما يحتاج الى الظلم الضعيف

    • زائر 1 | 11:08 م

      bahraini

      السلام عليكم ،،شكرا لكم موضوع جدا جميل وحساس ،،لفتت انتباهي كلمة من انتم ،،بالعاميه نقول{منو هاذوله} شكرا

اقرأ ايضاً