بيوت المحرق كانت بنوافذ مفتوحة بين كل قلب وآخر، فحتى بدون نوافذ كانت بيوتنا مفتوحة ولا تغلق، وكانت شوارعنا المتربة والصغيرة مملوءة بصراخ الصعجير ( لعبة الاختفاء والتي لعبها كل طفل في العالم باسم أو بآخر)، وصراخ الفتيات وهم يراقبون جرأة الأولاد بعضلاتهم الصغيرة وأقدامهم الحافية والمتربة.
يبدأ الفريج قديماً من عين ماء تقع على البحر. وكنا صغاراً. نذهب لنستحم من مائها البارد والغزير، ونتفرج على كبار السن من البحارة وهم يستحمون بالإزار. كانت العين متعة، ولا نعرف كيف يأتيها الماء بدون أن ينضب. وتحت العين أو قربها كنا نصطاد السمك، إما بالخيط أو بالقارب المصنوع من برميل زيت. كنا نفتحه من الطرفين ونفرده ثم نحوله لقارب صغير يتسع لشخص وبالكثير شخصين.
كنا نستحم في البحر بمعدل يومي خفية عن أهلنا الذين لا يرضون بسباحتنا اليومية في البحر، مما يضطرنا للسباحة في العين والبقاء حتى تنشف ملابسنا بعد عصرها ثم نعود للبيت.
دكان جاسم الهيال أو الجزء المتصل بالداعوس الذاهب إلى سوق المحرق، كان موقع لا ينساه أهل الفريج أو من يمرون على البراحة في أكثر أوقات اليوم، كونه البقعة التي يقف فيها بشكل يومي (الحسني بوعلوي)، وهو واحد من أهم معتوهي المنطقة وأكثرهم إثارة؛ فالحسني أو حسن لم يكن عنيفاً أو مؤذياً بل هادئاً وطويل القامة، وبشعر محلوق وخفيف دوماً (لم أعرف حتى اليوم كيف كان هذا الشعر محلوق بدرجة واحدة لا تتغير)، وكان يقف برجلٍ واحدة ويرفع الرجل الأخرى ليرفس بها الجدار، وهو يقول (مشريه ...مشريه) ثم يذهب إلى البحر تحت العين، ويظل لمدة طويلة في البحر بثوبه الوحيد، ووجهه الجامد من أي انفعال أو إحساس أو تعبير.
وكنا نمشي وراءه ونحن صغار، ونصرخ كلنا بصوت واحد (الحسني بوعلوي... الحسني بوعلوي)، وعندما يلتفت خلفنا كنا نهرب خائفين. ولما كبرت واختفى الحسني (وقيل إنه توفي منذ فترة طويلة) عرفت أنه كان لحاماً جيداً، ويعمل في شركة «أرامكو» بالسعودية في خطوط النفط. كانت لديه صديقة يلتقيها في إجازاته بالبحرين، ويصرف عليها. وكانت تحبه وهو يحبها، وبعد فترة هربت بعد اأن سرقت كل مستحقاته من نقود حيث عاشت مع غيره، فأصبح مجنوناً بسبب الهجران وقوة الحب لديه.
أحاول أن لا أذكر أسماء وألقاب كي لا يُساء فهم المكتوب، فهي قراءة شخصية لحياة خاصة مارسها أغلبكم بطريقة أو أخرى، لذا فالأسماء آخر همي، فهي نفس الأسماء في كل فريج بحريني عاش نفس العمر والتجارب والعواطف والأهواء المتشابهة للمجتمع البحريني.
إقرأ أيضا لـ "عبدالجليل السعد"العدد 3731 - الجمعة 23 نوفمبر 2012م الموافق 09 محرم 1434هـ
الله يرحمك يابوي