عاش الفيلسوف الشيخ ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ولد في 1238 وتوفي في 1299) وتوفي في الماحوز (من الضواحي الحالية للعاصمة المنامة - البحرين)، حيث يوجد قبره فيها. وكانت الماحوز منطقة علمية وسابقة لوجود المنامة (التي كانت تسمى سابقا "المنعمة"). عاصر الشيخ ميثم الكثير من التغيرات السياسية في البحرين وخارجها. فقد عاصر الغزو المغولي لبغداد في العام 1258م، وانتهاء الدولة العباسية.
وفي البحرين فقد ولد مع انتهاء حكم العيونيين (من قبيلة عبد القيس وكان قد بدأ حكمهم في العام 1076م) الذي انتهى حكمهم قرابة العام 1239م، ومابين 1239 الى 1308 كانت البحرين تحت جكم الدولة الزنكية، وبدأ بعدهم حكم آل عصفور (أيضا ينتمون إلى عبد القيس واستمر حكمهم حتى عام 1388م). وعاصر علماء وفلاسفة زمانه وناقشهم في "الحلة" - مركز الفلاسفة انذاك بالعراق.
تميز الشيخ ميثم عن غيره بأنه حظي باحترام الفقهاء والفلاسفة في آن واحد. فهو فقيه متبحر في الدين وأصوله وفروعه، وكان في الوقت ذاته فيلسوفا وحكيما مطلعا على الفلسفة اليونانية من مصادرها الأساسية ومطورا للفلسفة الإسلامية. فالفلسفة الإسلامية لدى الشيخ ميثم تضمنت علمه بالمنطق والرياضيات وعلم السياسة المتخصص في رعاية مصالح الناس الدنيوية وأنظمة الحكم.
تعتبر الفترة التي عاصرها الشيخ ميثم من الفترات الذهبية بالنسبة للعلوم والفلسفة الإسلامية، وهي الفترة التي استطاع فيها المسلمون الوصول إلى القمة (مقارنة مع غيرهم) في مجالات الحياة المختلفة. ولهذا عكست أفكار الشيخ ميثم مزيجا مطورا للأفكار المطروحة حينها، خصوصا فيما يتعلق بالعلاقة بين الوحي والعقل ومتطلبات الاجتماع السياسي. والشيخ ميثم -بصفته فقيها وفيلسوفا- كانت له آراء ومطارحات في هذه المواضيع.
دور العقل في الحياة الإنسانية:
قبل التطرق لأفكار الشيخ ميثم السياسية ينبغي فهم وجهة نظره تجاه موضوع أساسي يتعلق بدور العقل في الحياة الإنسانية. فالشيخ ميثم يرى أن المعرفة قسمان: معرفة ادراكية/حدسية وتسمى أيضا "التصور"، وأخرى مكتسبة/حسية، وتسمى أيضا "التصديق".
المعرفة المكتسبة تستحصل بواسطة الاستنتاج العقلي القائم على الحجج والبراهين الملموسة. وهو يرى بأن معرفة الله سبحانه وتعالى ممكنة ايضا من خلال العقل العملي (المعرفة الحسية/التصديق)، بمعنى أن الإنسان يمكنه أن يصل إلى الحقائق دون مساعدة الوحي. هذا لا يعني أنه ينفي الوحي، بل أنه يرى أن العقل والجهد والتفكير الإنساني (بجانبيه النظري/الادراكي والعملي/الحسي) بإمكانهما إيصال الإنسان لمعرفة الله والحقيقة.
ويعتبر الفلاسفة الإلهام والعرفان والرياضيات من مصادر المعرفة الادراكية/الحدسية. أما المعرفة الحسية، فهي القائمة على العلوم التجريبية الملموسة والمعتمدة على قوانين طبيعية (فيزيائية وكيمائية وحيوية وغيرها) ثابتة يمكن اكتشافها والاستفادة منها في الصناعة والزراعة والطب والهندسة والبناء وغيرها من متطلبات الحضارة الإنسانية.
يشرح الشيخ ميثم أفكاره حول مصادر المعرفة في كتابه (شرح مائة كلمة للإمام علي (ع))، عند التعرض لموضوع "قوى النفس الإنسانية" قائلا:
"اعلم أن النفس الإنسانية لها قوتان، نظرية وكلية.. أما العملية (أي المعرفة الحسية) فهي قوة محركة لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية على مقتضى آراء، بعضها جزئية محسوسة وبعضها كلية أولية… وأما النظرية (المعرفة الحدسية)، فهي التي لأجلها يصح من النفس إدراك الأشياء على الوجه الصواب".
ثم يواصل الشيخ ميثم شرحه بالقول بأن الحكمة النظرية (كمال المعرفة الحدسية)، هي "استكمال القوة النظرية في الإدراكات التصويرية والتصديقية حتى تصير عقلا مستفادا".
أما الحكمة العملية (كمال المعرفة الحسية)، فهي "استكمال القوة العملية بتصور أنه كيف يمكن أن ينبغي أن يكون اكتساب الكمال بالملكة التامة على الأفعال الفاضلة حتى يكون الإنسان قويما على الصراط المستقيم".
السياسية قسم من أقسام الحكمة العملية:
يشرح الشيخ ميثم رأيه حول الحكمة العملية (كمال المعرفة الحسية)، قائلا:
"وأما أقسام الحكمة العملية فهي "حكمة خلقية وحكمة منزلية وحكمة سياسية، وذلك لان كل عاقل فلا بد وأن يكون ذا غرض في فعله. وذلك الغرض أما أن يكون مختصا به في نفسه وهو علم الأخلاق (الحكمة الخلقية)، أو يكون مختصا به مع خواصه وأهل بيته وهو علم تدبير المنزل (الحكمة المنزلية)، وأما أن يكون عائدا إلى الإنسان مع عامة الخلق وهو علم السياسية".
ويواصل الشيخ ميثم قائلا: "وقد يزاد في الأقسام رابع، وهو غرض الإنسان بالنسبة إلى مدنيته، وتسمى حكمة مدنية، وهو تعلم تدبير المدينة بكيفية ضبطها ورعاية مصالحها. وهذا علم لا بد منه، لأنه الإنسان مدني بالطبع، فما لم يعرف كيفية بناء المدينة وترتيب أهلها على اختلاف درجاتهم لم يتم مقصوده".
ويشير إلى أن "الحكمة المدنية" هي جزء من "الحكمة السياسية"، ويشرح فائدة الحكمة السياسية أنها تعلم "كيفية المشاركة فيما بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الإنسان".
السياسة هي تدبير شؤون "المدينة":
تحتل فكرة "المدينة" موقعا مركزيا في وجهة نظر الشيخ ميثم حول الحكمة (الفلسفة) السياسية، إذ يرى بأن الإنسان "مدني" بطبعه. ويعني ذلك أن الإنسان بحاجة "للاجتماع" و"التعاون" لأنه محتاج إلى أمور كثيرة لا يمكنه الحصول عليها كلها لو عاش لوحده. ولهذا فإنه مضطر "بطبيعته" للتعاون مع جماعة من الناس للحصول على ما يحتاج إليه.
وتعتبر "المدينة" قمة ازدهار الاجتماع الإنساني، والمدينة تقوم أساسا على وجود سوق لكي يبيع الحرفيون والصناع والمزارعون ما ينتجونه لغيرهم من المستهلكين. والسوق تفترض وجود أناس أحرار ومتساوون لكي يتداولوا السلع والخدمات فيما بينهم. والقرى الصغيرة عادة تتمحور حول قرية كبيرة (أم القرى) تصبح هي المدينة التي تجتمع فيها الناس لتبادل المنتجات والخبرات والاستمتاع بالتسهيلات التي توفرها وجود تلك المنتجات والخدمات.
ولهذا فإن "المدينة" -في العصر الحاضر- بحاجة لمؤسسة تضبط خدماتها (البلدية) وبحاجة لمؤسسة تدير شؤونها (مجالس/ برلمانات/ إلخ) وتوجهها لتنمية وضعها بما يخدم "الاجتماع الإنساني" المكون لها. والمدينة أو مجموعة مدن وما حولهم من قرى يكونون دولة (بالمعنى الحديث)، عندما يتم تحديد حدود لتأطير وتعريف مدى صلاحية الحكم من الناحية الجغرافية.
وعندما يتطرق المرء لشروحات الشيخ ميثم يتصور وكأنه يعيش في عالم اليوم الداعي لإقامة المجتمع "المدني" المتطور. ولا غرابة في ذلك، فلقد قامت الحضارة الإسلامية على المدن والحواضر التي احتوت على المساجد والمدارس والأسواق. وجميع هذه المؤسسات شكلت مراكز المدن الإسلامية وطورت الحرف والعلوم وصعدت بالمسلمين إلى القمة. وحتى ان الرسول (ص) غير اسم يثرب إلى "المدينة" ودعا الأعراب للإقامة في الحواضر والمدن لإخراجهم من العصبية-القبلية وعصور الجاهلية المظلمة.
غير أننا فقدنا موقعنا الحضاري ذلك مع صعود الحضارة الأوروبية التي استلهمت التقدم الحضاري الإسلامي وطورته لخدمة مجتمعاتها، بينما تدهورت الأوضاع في المجتمعات الإسلامية وتحولت البلاد الإسلامية إلى دول متشتتة وغير مستقرة سياسيا ومحكومة بوسائل استبدادية مخالفة لروح الإسلام وأهدافه.
كتاب الشيخ ميثم (شرح المائة كلمة للإمام علي (ع)) يحتوي على الكثير من الأسس الأخلاقية والسياسية التي توضح المبادئ التي يعتمد عليها الشيخ ميثم. كما أن الكتب العديدة للشيخ ميثم، خصوصا موسوعة شرح نهج البلاغة، وكتاب القواعد (قواعد المرام في علم الكلام) وغيرهما، توضح عمق الفلسفة الميثمية التي استفاد منها الفلاسفة الآخرون مثل الملا صدرا والجرجاني وغيرهما. ونلاحظ أن شروحات الشيخ ميثم سياسية في كثير من جوانبها. مثلا، عندما يشرح قول الإمام علي (ع) "لا سؤدد مع انتقام"، يوضح قائلا:
"أقول السؤدد الاسم من السيادة، والانتقام الأخذ بالعذاب لتقدم جريمة من المأخوذ عن حركة القوة الغضبية، كما سبق بيانه. وهو قد يكون محمودا وقد يكون مذموما. أما المحمود فما صدر موافقا لرسم الشريعة في السياسات وتدبير المدن، وأما المذموم فهو الذي يخرج إلى طرف الإفراط من ذلك، وهو المقصور في هذه الكلمة بالذات المنافي للسؤدد، والسبب في مضادته له أن الانتقام مثير للقوى الغضبية ممن ينتقم منه وحامل له على طلب المقاومة والدفع والمغالبة أنفة وحمية، أو على الهرب والترك وكل ذلك مستلزم لتنفر الطباع وبعدها عن التآلف. والسؤدد (السيادة) إنما يحصل بالتواضع وخفض الجناح للتابعين ولين الكلمة واستجلاب طباعهم بأنواع التلطفات والمباسطات والتكرم والتجاوز عن بعض إساءتهم والصفح عن بعض جرائمهم ليحصل الأنس والمحبة الطبيعية التي هي سبب الألفة والانقياد وذلك ما أدب الله تعالى نبيه بالآداب الصلاحية. فقال عز من قائل: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}، الشعراء/ 21، {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفظوا من حولك فاعفوا عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} آل عمران/159". ويلاحظ القارىء كيف ربط الشيخ ميثم موضوع السيادة بالشورى، وكذلك علاقة الانتقام السلبية او الايجابية بسياسات "تدبير المدن".
مصادر المقال:
(1) العالم الرباني كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني قدس سره، على المائة كلمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة.
(2) رسالة ماجستير حول تحقيق "كتاب القواعد" للشيخ ميثم البحراني، المؤلف: م. ج. جورياولا، جامعة لندن، 1952.
(3) قواعد المرام في علم الكلام، تصنيف الفيلسوف الماهر كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (636 - 699 هجرية)، منشورات مكتبة اية الله العظمى المرعشي النجفي.
(4) الدكتور علي ملحم، الفلسفة العربية: مشكلات وحلول، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، 199.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ