في أحيان كثيرة، نسمع أن «فوات الأوان» قد أدَّى إلى موت شخص ما، ولو أن دقيقة واحدة فَرَقَت لكان بالإمكان إنقاذه. لنا أن نتخيَّل، أن نظام الأوكسجين في الطائرة، الذي تتدلَّى أجهزة التزوُّد به من فوق رؤوس المسافرين، حين يجِفّ في الحويصلات الهوائية والأنسجة، فإن المسافر، أمامه 18 ثانية فقط، لكي يتناول الدائرة الجلدية من الأعلى بيده ويضعها على فمه بالوضعية الصحيحة، وإلاَّ أصيب بالإغماء! ثم يفعل الأمر ذاته مع أطفاله وبالسرعة ذاتها.
في الدول الواقعة على خط الزلازل كاليابان وإندونيسيا وإيران وأفغانستان وفلسطين وتركيا والجزائر وغيرها من الدول، فإنها دائماً ما تلجأ إلى أجهزة الاستشعار، ونظام المعلومات الجغرافي التي قد تتنبأ بحدوث الزلزال ولو بدقيقة، وذلك لتفادي ما يمكن تفاديه من تدمير قد يُحدِثه الزلزال، وهي جميعها في المحصلة أنظمة واختراعات هدفها الأساس، السباق مع الزمن.
ومن هنا، نرى الفروقات التدميرية للزلازل بين دولة وأخرى، طبقاً لاقتناصها أجزاء من الثانية قبل الكارثة، وليس الثانية كلها (فضلاً عن تقنيات أخرى بالتأكيد) إذًا فالوقت كالسَّيْف، إن لم تقطعه قَطَعَك.
أسرد هذه المقدمة، لكي نتفكَّر جميعاً في أهمية الوقت بالنسبة للبشر. هذه الأهمية، التي لم تُدرَك بعد بالنسبة للكثيرين مع شديد الأسف، فترى ساعاتهم وأيامهم تنقضي بينهم حَسَرَات دون فائدة. فالإسراف والتبذير ليس في المال فقط، بل هناك إسراف في المأكل والمشرب والضحك والحزن، وهناك أيضاً إسرافٌ في «الوقت» وهو ما عنيته في هذه المقالة.
فهذا الوقت الذي نقوم نحن بتبذير ساعاته وأيامه في اللافائدة، يحتاج آخرون لأجزاء من دقائقه ولحظاته، كي لا يموت من عندهم عزيز يتلوَّى من مَرض عضال أو نَزف في رأسه، ويريدون نقله بأسرع وقت ممكن إلى المستشفى.
وفي أحيان أخرى يُكابد أحدنا كي لا يخسر في صفقة تجارية بقيمة ثلاثين مليون دولار، فتراه يحسب الدقيقة بألف، والساعة بيوم لكي يضمن عدم الخسارة.
هنا، أودُّ أن أشير إلى حالة من تبذير الوقت لا في الأفراد وإنما في الدول. فأعجب ما أعجب منه، هو حين أرى حجم الموازنات المرصودة بعشرات الملايين من الدولارات، وذلك لتسيير خطابات وحَلَقَاتٍ وجَلَسَاتٍ ولقاءاتٍ لا هَمَّ لها سوى الحديث بسفاسف الكَلِم، مرة لتعظيم أفراد بعينهم والتسويق لهم بغير حق، أو لطرح موضوعات لا تستولي على كَسْرٍ عشري من هَمِّ الناس المعيشي أو الاجتماعي أو السياسي تارة أخرى، وهو ما يجعل الأمر مستهجناً عند الرأي العام.
الأكثر سوءًا أنه وفي أحيان أخرى، ترى الموازنات المرصودة في الإعلام، وهي مُوجَّهة لتحقيق أغراض سياسية بحتة، عبر إفراد البرامج والحلقات التلفزيونية والإذاعية والورقية، لتصوير الآخرين، ممن لا يأتون على هوى الأنظمة الحاكمة، على أنهم جرذان أو إرهابيون أو خونة أو مرتزقة أو عملاء أو مندسون وخلافها من النعوت التي لا تنتهي، والتي ملَّها المواطن العربي. (قد نتذكر القذافي هنا).
ملايين من الدقائق وآلاف من الساعات التي تهدَر فقط لقول ذاك أو هذا بالشتيمة والتنقيص بحق المختلفين معنا في السياسة والفكر والعِرق والمذهب، ثم تدفع فواتير تلك الساعات المليونية أو المليارية (حتى) من جيوب الناس، حين يتمُّ استنزافها من خيراتهم وثرواتهم الوطنية، واحتياجاتهم الملحَّة من تطوير للبنية التحتية والمشروعات المفيدة من تعليم وصحة وإسكان وخدمات أخرى، أو لإفرادها في تقوية دخل الفرد الشهري والسنوي. هذا الأمر مدعاة للشفقة.
هكذا حال لم يعد مقبولاً لدى أحد ونحن نعيش في هذا الزمن المنفتح على وسائل الاتصال. فإن كان هناك أحدٌ يستحق الإشادة والتقدير فسيستحقها رغماً عن أنف الجميع، كما استحقها من قبل هرمن هيس، وهو فقير متهالك، ونجلٌ لأبٍ كان يعمل في تطريز الأقمشة، وكما استحقها بابلو نيرودا، رغم أن أباه كان عاملاً في سكك الحديد، أو كما استحقها الاسكوتلنديون الكالفينيون وهم معدمون عندما علَّموا جيمس وات وتوماس تلفورد ولودن ماكادم وجيمس مِل.
حساب الدقيقة في الدول يختلف عن حسابها لدى الأفراد. ودينارها أيضاً يختلف، كما هو عدلها وعملها. وبالتالي، ليس من الإنصاف ولا العدالة أن ننفق مليون دينار من أجل فرد، في حين أن هذا المليون، بإمكانه أن يستر ويشبع ويسد رمق ألف أسرة محتاجة! وليس من الإنصاف ولا العدالة، أن ننفق ساعتيْن من الزمن (أكثر أو أقل)، وعلى الهواء مباشرة في أشياء هي لا تعني إلاَّ مَنْ جُعِلَت من أجله، في حين أن هناك مئات الآلاف من الناس لهم هموم وآمال وتطلعات أخرى تماماً!
هؤلاء البشر لديهم مشاعر وأحاسيس يجب أن ترَاعَى. في الولايات المتحدة الأميركية، وعندما حَدَثَ إعصار ساندي قَطَعَ المرشَّحان الرئاسيان (أوباما/ رومني) حملتيْهِما الانتخابية، ليقفوا على هَمٍّ وطني آخر.
وهكذا دواليك في بلدان أخرى لديها حسّ المسئولية. فعندما تقع كارثة أو حادثة ما في أيّة دولة تحترم نفسها، فإنك ترى إلغاءً للزيارات الرئاسية الرسمية والخاصة، واستنفاراً على جميع الصعد. هم يدركون أن المنصب الذي هم فيه، لا يمنحهم (أخلاقياً) فرصة التفكير في الذات في حين أن هناك من شعوبهم من يعيش لحظات وساعات في كارثة وطنية مُدمِّرة أو أزمة سياسية أو اقتصادية خانقة. لكن هذا الأمر هو ما نفتقده في أغلب عالمنا العربي.
هذه اللحظات هي لحظات «تضامنية». فهذه الدول تدرك، أنه ليست الثروة الوطنية من نفط ومعادن وصناعات وأراضٍ هي مُلْكٌ لشعوبها فقط، بل حتى ساعات ودقائق إعلامها هي مُلْكٌ للناس وليس لأفراد تُعبَد. ومادامت هي كذلك فمن باب أولى ألا يتمّ استفزازهم بطرح أشياء هي نقيض ما يشعرون.
فالدولة لا تكون دولة إذا كانت مُلكًا لفردٍ واحد كما قال سوفوكليس.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3729 - الأربعاء 21 نوفمبر 2012م الموافق 07 محرم 1434هـ
الله يعزنا ويعزك
اختصر الله يخليك
يمحمد اختصر شوي الله يخليك ترا احنا فى زمن الكلمه البسيطه والاسلوب (المختصر المفيد) الحين كل شى سريع شوف ويش كتب اليوم السيد مقاله واجد حليو اسلوبه عضمه على عضمه واجد اختصر المشاكل فى كلمات مفهومه وبسيطه ووصل رسايل بكم كلمه بس.
الاسراف في القتل ايضا
قال الله تعالى فلا يسرف في القتل
شكراً
شكراص استاذ على الموضوع الشيق.. والى الاخ صاحب التعليق الثاني يبدو انك لم تقوم بقراءة هذا المقال اولم تكن من المتابعين لمقالات الاستاذ محمد..
علي نور
يا استاذ محمد ..وددت لو انك استعملت هذا القلم الناضح بالمعلومات في شان اخر غير شان هذا الموضوع الا ترى الناس كلها مشغوله بما يحدث في غزة وانت مستبسل قلمك في مواضيع كالاسراف في المال ، لم نر لقلمك ولا طلقة واحدة .... واحدة في شان غزة لماذا؟؟ غريب بل مبكي امر صحفيينا تراهم مثل جامعة الدول العربية فراسة اقلامهم على اخوانهم في سوريا وعدوهم اليهم اقرب، بينما غزة لا تثيرشهية اقلامهم ولا بياناتهم فهي لا تستحق طلقة واحدة .
الموضوع مهم
أختلف معك لا يمكن توجيه كامل الصيحفة لموضوع واحد بقالب واحد
وأن هذا الموضوع مهم للغاية ويمكن تأسيس عليه الكثير من المواضيع الهامة
لقد وفق الكاتب تمام التوفيق في الطرح
كريم
الموضوع مهم
لا يمكن أن تأخذ الصيحفة موضوع وقالب واحد التنوع مطلوب والقضايا كثيرة
لقد وفق الكاتب تمام التوفيق في الطرح نظرا لأهمية الموضوع في حياة الفرد والمجتمع
كريم
شكرا لكل كاتب متألق هادف صادق واع صابر محترم
شكرا عزيزنا
مقالك شيق ورائع وهم وهادق وانت فيه صادق
وفقك الله تعالى وأعزك ونورك
شكرا لكل كاتب متألق هادف صادق واع صابر محترم