سأل أحد خبراء مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي حول طريقة التدريب التي يحصل عليها للتعرف على أوراق النقود المزورة. أجاب بأنهم يدربون على التعرف على الأوراق الصحيحة غير المزورة فقط والإجابة هذه توجد خلفها فلسفة هامة، وهي تركيز لجهود على معرفة الأمور الصحيحة، وبالتالي فإن الأمور غير الصحيحة تبرز للسطح أمام أولئك الذين يعملون الجانب الصحيح.
ينطبق هذا الحديث على أمثلة أخرى من حياتنا. فالأشخاص الذين يركزون فقط على أمراضهم وأوجاعهم وأخطائهم فإنهم دائما مصابون بتلك الأمراض والأخطاء. المرء الذي يقضي وقته في التفكير في المصائب، في كيف انقطعت رجل احدهم بعد أن صدمته شاحنة، وكيف زهقت روح أحدهم عندما سمع صوت زاهق، وكيف وكيف... فإنه يقضي حياته يبحث عن الحزن حتى يحصل عليه بنفسه لكي يرتاح بعد ذلك، ويموت.
في مقابل فإن الأشخاص الناجحين عادة ينظرون إلى أخطائهم وأخطاء غيرهم كدروس وخبرة من خلال مقارنتها بالقدرة على النجاح لتعزيز الثقة بالنفس. تنبع من اعتقاد الشخص بان النجاح سيكون حقيقة في مستقبله، من خلال تركيزه المستمر على الأمور الصحيحة في حياته. وهذا هو السبب في تأكيد المسئولين عن التوجيه في المجتمعات المختلفة على تركيز الناس بماضيهم الجيد وقدراتهم الحسنة التي أثبتوها وأثبتها أجدادهم في الماضي.
هناك أنواع من الحكومات والحركات، أفرادا وجماعات، تتبنى الأسلوب المعاكس لما ذكر أعلاه. ففي حديث مع أحد المسئولين في إحدى الدول العربية رد معلقا على احد القضايا بأن هذا الشعب (ويقصد شعبه) ليس فيه فائدة ولا ينفع معه شيء. هذه النظرة موجودة أيضا لدى حركات تقول إنها تعمل على تطوير أمر تحرير الحالة السياسية في بلدانها.
الحقيقة أن كل شعب وكل أمة وكل مجتمع لديه عيوب "وعورات" كما ان لديه أمجاد وخصال عالية. والتركيز على الخصال العالية لا يعني ان المرء يركز جهوده على الجوانب التي تدفع المسيرة إلى الأمام بالاتجاه الصحيح.
التركيز على الأمر الخطأ يدفع الإنسان نفسه إلى ارتكاب الأمر الخاطئ. فذلك الشخص وتلك المجموعة التي لم تتوقف عن ذكر أخطاء الآخرين والتركيز عليها سرعان ما يرون أنفسهم يرتكبون الأخطاء ذاتها. فهناك من لديه سجل كامل حول كيفية وصول هذا وذاك إلى ما وصلوا إليه بسبب "تحاليلهم" على القانون أو على الأخلاق المقبولة في مجتمعهم. ولديه سجل كامل "بالانجازات" التي وصلوا إليها في الوقت الذي هم لا يستحقونها بالأساس. هذه النغمة في الحديث، ومع الأيام، تدفع الإنسان ليبرر لنفسه القيام بنفس أنواع التحايل التي ينتقد الآخرين ويتهمهم بالقيام بها.
أما التركيز على الأمور الصحيحة فيدفع الإنسان للاتجاه الأصح. فعلى العكس من متابعة ومقارنة أولئك المتحايلين، يمكن للمرء أن ينظر إلى الأكثرية العظمى في أي مجتمع، وهي أكثرية تحترم نفسها وتكدح من أجل عيشها الكريم. يمكن للمرء أن ينظر إلى ذلك الرجل أو المرأة الشاب الذي لا يضيع وقته في توافه الأمور، وإنما يتعب من أجل تحصيله العلمي والعملي، وكيف أن أمثال هؤلاء (وهم أكثرية في كل المجتمعات) يتلذذون بما يحصلون عليه في حياتهم حتى ولو كان قليلا، لأنه من نعبهم وجهدهم.
توجيه الذات يأتي دائما عبر ما يسمى "بالإيحاء الذاتي" بمعنى أن الإنسان يستوعب في ذاته وعقله الباطن أمور يوحيها لنفسه باستمرار. فالشخص الذي يوحي لنفسه أن الدواء المعين هو الذي يعالج وجع الرأس لديه، فإنه مع الأيام لا يقبل دواء غير ذلك الدواء، وكذلك رأسه لا يتخلص من الوجع إلا إذا تناول ذلك الدواء.
جانب الإيحاء الذاتي من أهم الأساليب التي تعتمد عليها الدعايات التجارية فكثرة تكرار دعاية معينة على شاشة التلفزيون – مثلا – تركز في العقول ان لبس نوع معين من الثياب يوفر للشخص مزايا التلفزيونية. فالمهم أن تلك الدعاية تمكنت من عقله الباطن وأوحت له بالتحرك لشراء تلك الثياب.
هذا يوضح خطورة الدور الذي تقوم به بعض المؤسسات الإعلامية لاسيما سينما هوليوود التي يسيطر عليها أناس لديهم رسائل محدودة يسعون لإيصالها دائما للجمهور. فالمخرج ستيفن سبيلبيرغ يعرف بالضبط نوعية الرسالة التي سيغرسها في الوجدان وفي عقول مشاهدي أفلامه في جميع أنحاء العالم. أفلامه تعرض الجانب المأساوي الذي تعرض له اليهود في ألمانيا وأوروبا، كما وتعرض أفلامه كيف يساهم اليهود في الدفاع بارواحهم عن الحرية التي ينعم بها الغربيون في بلدانهم. وسبيلبرغ لديه ميزانية دول، بل انه كلف من قبل صديقه الشخصي بيل كلينتون لرعاية مهرجانات الاحتفال بنهاية القرن العشرين. ولو قارن الإنسان بين ما يطرحه سبيلبيرغ وغيره في الأفلام والدعاية حول مظلومية اليهود ودورهم... الخ، وبين ما تطرحه الدعاية نفسها والسينما ضد المسلمين والعرب فإنه لا يستغرب كيف ينتج عن ذلك ثقافة تحقير للعرب والمسلمين وثقافة تعظيم لغيرهم.
أحد الأشخاص قال انه حضر لدورة تدريبية عن "السلامة في الصناعة" في الولايات المتحدة، وهو موضوع علمي ليس له أبعاد سياسية بصورة مباشرة. وأثناء الدورة عرض فيلم لتمثيل ما يتوجب عمله فيما لو حدث تسريب لمصنع غازات بترولية. وأثناء العرض هذا، كان هناك ممثل أخذ دور مذيع، الأخبار في التلفزيون. وعندما أورد هذا الممثل خبر التسريب، علق قائلا: "وقد صرح مسئول رسمي بان هذا الحادث ليس تخريبا ونكر ان الاعتقال الذي طال ثلاثة من الإرهابيين العرب بالأمس له أي علاقة بحادث التسريب في المصنع". هذا الفيلم التدريبي تعرضه تلك المؤسسة على مئات من المتدربين القادمين من مختلف أنحاء العالم ليتعلموا كيفية المحافظة على سلامة مصانعهم. ولكنهم أيضا يحملون معهم رسالة تدخل إلى عقولهم ووجدانهم تقول لهم انتبهوا لعامل "الإرهاب العربي" المتواجد في منطقتهم. لا يوجد هناك إرهاب يهودي، ولا إرهاب أميركي ولا إرهاب أوروبي ولا إرهاب ياباني، هناك فقط "إرهاب عربي". والإرهاب صفة ملازمة لك أيها العربي المتطفل على الحضارة التي بناها غيرك من البشر!
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ