العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

الحوار الهادف هو السبيل لمنع "الانفلات" الفكري

عندما قرر حزب الخضر السويدي نشر إعلاناته ودعاياته خلال الأسابيع الماضية لم يتوقع أن تحدث الضجة السياسية في المجتمع السويدي. الدعاية الحزبية كانت عبارة عن صورة امرأة ليس عليها أي قطعة ثياب تستر أي جزء من جسدها، نصف المرأة في ماء البحر والنصف الآخر في الهواء الطلق، المرأة يظهر جسدها كاملا من الخلف. السويد تعتبر أكثر الدول في العالم من الناحية الليبرالية "الفردية". والحديث عن الجنس أو مشاهدته على شاشة التلفزيون أمر اعتيادي (تقريبا) في السويد.

غير أن المجتمع السويدي (الليبرالي جدا) انزعج كثيرا عندما قام أحد الأحزاب السياسية بنشر صورة فاضحة لامرأة نصفها في الماء ونصفها في الهواء الطلق مع عبارات تشير إلى أن حزب الخضر هو حزب الوسط (وسط المرأة في الماء ووسط في الهواء) وأن حزب الخضر يحب الطبيعة والجمال.

تقول التقارير الصحافية أن نسبة الناخبين لحزب الخضر ستضمحل بدلا من أن تزداد بسبب هذه الدعاية. أثارات أخرى في دولة أكثر محافظة (بالمقارنة مع السويد) هي بريطانيا، حيث منعت نشر أعمال أحد "الفانين" الذي رسم نفسه في وضع "شذوذ" جنسي مع ثور.

الحديث عن تدخل السلطة من جانب لمنع نشر أعمال أحد الأشخاص أو انزعاج المجتمع من صورة فاضحة تدخل في صميم المفاهيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية. فإذا كان مجتمع ما يؤمن بحرية التعبير عن الرأي، لماذا يمنع شخص ما من أن يرسم نفسه في وضعية تعتبرها السلطة "غير أخلاقية"؟ ولماذا تمنع الدول نشر أفلاك معينة دول أخرى؟ ولماذا تسمح دول أوروبية بعرض أفلام "خلاعية" في جميع الأوقات بينما تمنع ذلك دول أوروبية أخرى، أو تسمح بأفلام "أقل" خلاعية، ولكن بعد الساعة التاسعة مساء، مثلا كما هو في بريطانيا؟

ما هو حدود المقبول وغير المقبول؟ من الذي يعرف الأخلاقية التي يلزم الالتزام بها؟ هل يحق لأحد أن يعبر عن رأيه كما يشاء، حتى لو أن تعبيره عن رأيه أدى لإحداث مشاكل اجتماعية على المستوى المحلي أو الدولي، هل تعني حرية التعبير عن الرأي أن كل شخص يدعو لأي فكرة مهما كانت هذه الفكرة، دينية، عنصرية، "غير" أخلاقية، سياسية... الخ؟ هل يحق لأحد أن يتدخل لكي يمنع الجمهور من الاستماع أو مشاهدة ماذا يطرح بصورة مطلقة؟ هل يعتبر هذا التدخل تقليلا من شأن الجمهور واعتبارهم قطيع غنم لا يستطيعون التفريق بين الصح والخطأ؟

متى تتدخل السلطة، أو المجتمع، لمنع من وماذا ولحماية من؟ هل هناك اتفاق على أن الأطفال أو الأشخاص دون الثامنة عشرة يمنعون من رؤية أو استماع أي شيء يخالف "المتعارف عليه"؟ هل يمكننا التحكم في العواطف فيما لو سمحنا لكل شخص ولكل صورة ولكل فيلم ولكل حديث أن ينطلق؟

هل بإمكان "فولتير" الذي قال أنا أختلف معك ولكني مستعد لأن أدافع عن حقك في التعبير عن الرأي، أن يتحمل تبعات ما يقول إلى أقصى درجة؟ بمعنى آخر: هل أن التعبير عن الرأي حق مطلق دون قيود أو شروط؟ وإذا كانت هناك قيود وشروط، فما هي هذه القيود وتلك الشروط، ومن الذي يقول بها ومن الذي يفرضها ولماذا؟ وكيف يفرضها؟

ربما هذه الأسئلة، وعشرات الأسئلة الأخرى، هي محور البعد الحضاري لكل ثقافة، والأجوبة على هذا الأسئلة، وممارسة أبعاد تلك الأجوبة تمثل القوة الفعلية لهذه الثقافة أو تلك. ومحاولة اختصار الأجوبة في أسطر قليلة ظلم بحق هذا الموضوع المعقد والشائك. والجواب على هذه الأسئلة وغيرها أمر يشترك فيه الجميع وبكثافة وعمق وتوسع شامل لكل الجوانب الملمة بالموضوع.

فهناك من يرى "انفلاتا" ليبراليا يجتاح أوروبا وأميركا. والتعبير بالليبرالية هنا يقصد من الليبرالية على مستوى السلوك الفردي المؤثر على المجتمع. إذ أن هناك أنماطا أخرى من "الليبرالية" كالاقتصاد (تحرير القيود على الشركات والخصخصة... الخ"، والسياسة (السماح بالتعددية الحزبية...الخ). وإذا صح التعبير عن وجود "انفلات" على مستوى السلوك فإن ذلك يرجع في أساسه إلى جذور النهضة الأوروبية. عندما ارتبطت الكنيسة (التي تتحكم في السلوك الاجتماعي والفردي) بمؤسسات الحكم التي كانت تحكم بصورة استبدادية ومطلقة. والشعوب الأوروبية لم تستطيع أن تنطلق في القرون الوسطى إلا عندما تخلصت من ذلك التحالف المطبق عليها. ولذلك ظهر المفكرون الذين دعوا إلى التحرر الفكري، وهؤلاء كثير منهم كانوا رجال كنيسة أيضا، مثل "لوثر"، إلا أن الغريب في الأمر أن هناك الآن قساوسة يدعون للسماح (أو لتحليل) الممارسات الجنسية التي تدخل ضمن "المحرمات الدينية" المعروفة.

دور المسيحية تضاءل (وبعض الأحيان انعدم) في كثير من بلدان أوروبا بسبب ممارسات بعض المحسوبين على الدين في القرون الوسطى وبسبب تحالف "الدين" في ذلك الوقت مع الديكتاتورية.

ديننا الإسلامي اختلف في تاريخه على مر العصور ففي الوقت الذي تواجدت فيه المؤسسة الدينية الرسمية التابعة للحاكم، تواجدت الفعاليات الدينية الشعبية النابعة من المساجد لمقاومة الحاكم الذي قد يتستر باليد ويظلم العباد.

مع كل تاريخنا المجيد، فإننا نعيش اليوم آثار سنوات عديدة من الاضطراب السياسي والتطرف في الفهم. ونرى أن بعض الحكام يحاولون تبرير أسلوب حكمهم الديكتاتوري عبر لصقه بالإسلام، أو بفهم معين للإسلام. وقد شاءت حكمة الله أن ينتج عن ذلك هجرة لعقول نيرة من علماء ومثقفي ومفكري الإسلام الذين "لجأوا" الى الغرب هربا من "مطاردة" حكام بلداننا. ونحن نشهد في السنوات الأخيرة بروز ظاهرة صحية وجديدة بالاحترام. تلك هي ظاهرة الحوارات الفكرية المعمقة التي تجري في عواصم "الغربة" للجواب على كثير من الأسئلة المطروحة.

كتاباتي لهذه السطور جاءت بعد حضوري لإحدى تلك اللقاءات الفكرية، نسأل الله أن يوفق منظميها لنشر ما يدور فيها وفي غيرها ليس فقط باللغة الإنجليزية، وإنما باللغة العربية أيضا، لأنها لغة القرآن ولغة الإسلام، ولا داعي للخوف من الرقيب السياسي لان المطابع العربية موجودة في لندن أيضا والانترنت سيهزم الرقابة.

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً