العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

النرويجيون بني آدم ونحن بني آدم

لابد وأن ممثلي الدول المصدرة للنفط الذين اجتمعوا في مطلع نيسان (ابريل 1998) في فيينا قد شعروا بالمرارة وهم يحاولون الضغط على بعضهم الآخر لتخفيض معدل تصدير النفط لإنقاذ ميزانيات الدول "النفطية". في خضم الأزمة المالية الحالية للدول النفطية هناك دول في شمال أوروبا قد حصنت نفسها لتخرج من الأزمة المالية الخانقة التي تطارد الدول المصدرة للنفط. فبينما ينخفض سعر البرميل من الـ 18 دولارا إلى 13 دولارا، وبينما يدعو مصدرو النفط لتخفيض الإنتاج، فإن الحسابات والميزانيات بدأت تستعد لخسران دخل يقارب المائة مليار دولار للفترة القادمة.

أما النرويج فإنها تتوقع أن لا تواجه أي عجز في ميزانيتها، بل على العكس فإن فائض الميزانية يتوقع أن يزيد على سبعة بلايين دولار. (ملاحظة: الدخل العالمي لتصدير النفط بلغ العام الماضي 300 مليار دولار).

دولنا الخليجية التي تحتوي على أكبر احتياطي نفطي في العالم لن تكون سعيدة في الحظ مثل النرويجيين، فدولنا تعتمد على النفط كمصدر للدخل يتراوح بين 70 في المئة إلى 95 في المئة، بينما يمثل النفط 43 في المئة في صادرات النرويج. النرويجيون اخذوا قرارا استراتيجيا في الاحتفاظ بالفوائض الناتجة عن تصدير النفط في حساب خاص يمسى الأجيال القادمة". فالنرويجيون يعتقدون بأن النفط ليس ملكا للجيل الحالي فقط، وإنما هو ملك للأجيال القادمة أيضا، ولذلك فإن على كل جيل أن يدير العملية الاقتصادية بما يحقق العائد الأكبر للأجيال التي لم تنجب بعد.

النرويجيون يحتاجون لقدرات أكبر لإنتاج نفطهم لأنه في بحر الشمال البارد جدا والذي يحتاج لمحطات بحرية مكلفة جدا، بعكس التكنولوجيا الأسهل المطلوبة لبلداننا. النرويجيون، وفي خلال سنوات قليلة، استحصلوا على جميع الإمكانيات التكنولوجية التي تمكنهم من الاعتماد على الترويجيين في تصنيع تلك المحطات البترولية وفي السيطرة على جميع الصناعات المتفرعة إلى درجة التي أصبحت الشركات الهندسية والصناعية النرويجية تنافس مثيلاتها في الولايات المتحدة. فشركة "كافيرنر" مثلا، أصبحت من الشركات الهندسية العالمية الكبرى في صناعة استخراج وإنتاج وتصفية مصادر الطاقة. بل أنها اشترت عددا من الشركات الأميركية الكبيرة في هذا المجال، وأصبحت لا تمتلك القوة التكنولوجية فقط، وأنما تنافس الشركات الأميركية في عقر دارها.

كل هذا التطور الهائل في الصناعات الهندسية البترولية يحدث في الوقت الذي كان المفترض أن نملك نحن تلك التكنولوجيا وتلك الإدارة الحسنة لأننا أقدم ونملك أرضية أسهل لإنتاج نفطنا. وحصة النرويج في تصدير البترول للعالم هي أقل من 9 في المئة، وهذا نصف الحصة السعودية، مثلا، التي تزيد على 18 في المئة. ولو قارنا عدد نفوس النرويج (أربعة ملايين) مقابل الدول الأخرى فإننا نرى أن هذا الشعب أحسن استخدام ثروته النفطية ولم يفرط بها، بل انه أصبح يقود التكنولوجيا ويحتفظ بالفائض النفطي لأجياله القادمة. ولا غرابة في ان دخل الفرد السنوي في هذه الدولة يزيد على 31 ألف دولار، بينما معدل دخل الفرد للسعودية مثلا، أقل من 8 آلاف دولار، حسب الإحصاءات الرسمية المعتمدة عالميا.

نعم، نعتقد بأننا أغنياء وأثرياء ونملك ونسيطر، وفي حقيقة الأمر، فإن هناك "شركات" عالمية لديها دخل سنوي يعادل ثلاث إلى أربع مرات دولنا النفطية العظيمة في تصديرها.

ورغم كل ذلك نفطنا لا تعود فوائده على أمور ملموسة وبعيدة المدى، إنها تصرف تماما كما اخبرنا السناتور الأميركي جون وارنر John Warner الذي صرح بعد انتهاء جولته الخليجية في العام 1994 بأنه أخبر الكويتيين أن "عليهم أن يسددوا جميع تكاليف نقل القوات الأميركية إلى الخليج". وعندما سأل الصحافيون، هل أن القوات الأميركية، التي ستبقى في الخليج وستدفع تكاليف نقلها وبقائها الدول الخليجية المصدرة للنفط... هل ستساهم في تعزيز الديمقراطية في الخليج؟ لم يجب على هذا السؤال واعتبره ليس مهما بالنسبة لتلك المنطقة. فالمهم هو أن تدفع تلك الدول التكاليف بالكامل التي بلغت في آخر تحرك عسكري عند اشتداد الأزمة مع المفتشين الدوليين في العراق أكثر بكثير من 600 مليون دولار. هذا غير التكاليف المتعددة الأخرى التي تسددها الدول الخليجية بصورة مستمرة. فالسعودية مثلا تدفع 300 مليون دولار مقابل إحدى العمليات المستمرة وهي مراقبة منطقة منع الطيران في جنوب العراق، التي تقوم بها القوات الأميركية.

حفظ الأمن مهم جدا، ولكن يبدو أننا أكثر المناطق غير الآمنة في العالم رغم أننا ننفق معظم أموالنا وثرواتنا لشراء الأسلحة ولتسديد تكاليف القوات الدولية وغير الدولية، بينما نعجز عن استحصال التكنولوجيا، وعن تدريب شعوبنا لكي تسيطر على أهم مصدرها فيما ينفعها وينفع أجيال المستقبل، تماما كما يفعل غيرنا من بني آدم.

عذرا، أخي القارئ وأختي القارئة، فالأميركيون لن يمنعونا من الصعود إلى مستوى أعلى مما نحن عليه لان الإدارة الذاتية هي الأساس في إيصال المرء والأمة لما تريد، مهما كانت الضغوط الخارجية. فالنرويجيون وغيرهم أيضا يواجهون ضغوطا خارجية وداخلية، ومع ذلك فإنهم يصعدون بأمتهم وينعمون "بسعادة" النعمة بينما نشقى نحن مع كل ما يتوفر لنا من نعمة التي تتحول مع الأيام إلى نقمة!

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً