العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

الأوروبيون يستحقون العقاب الأميركي

"حرب تجارية بين أوروبا – الولايات المتحدة".. هكذا خرجت علينا عناوين الصحافة الأوروبية في 5 مارس 1999، بعد يوم من اشتغال الحرب الكلامية بين مسئولي التجارة في اوروبا واميركا. ففي لندن استدعى وزير التجارة البريطاني، ستيفن بايرز، السفير الأميركي لدى لندن، فيليب لادر، وقدم له احتجاجا شديد اللهجة حول الإجراءات العقابية التي فرضتها الولايات المتحدة ضد بعض الصادرات الأوروبية إلى الولايات المتحدة. فقد فرضت أميركا ضرائب 100 بالمائة على عدة منتجات أوروبية انتقاما من أوروبا التي استمرت في "شراء الموز من أميركا اللاتينية بدلا من شرائه من الشركات الأميركية".

الحديث عن الحرب التجارية بدأ يتصاعد منذ إعلان إحدى عشرة دولة أوروبية (ضمن الاتحاد الأوروبي) الشروع في استخدام العملة الأوروبية الجديدة "اليورو" التي سيتم تدشينها خلال العام القادم بصورة واسعة. التجارة العالمية يسيطر عليها الدولار، إذ يقدر أن قرابة 60 بالمائة من التجارة الدولية تتم بواسطة الدولار الأميركي. الدولار الأميركي يحدد قيمته البنك الفيدرالي الأميركي، وبالتالي فإن رئيس البنك الفيدرالي الأميركي يتحكم في 60 بالمائة من قيمة التجارة الدولية.

ولهذا أيضا فإن كل كلمة يتفوه بها هذا الرجل يتم وزنها بدقة لأنها تؤثر على ممتلكات الدول والشركات والصفقات العالمية. منذ الأول من كانون الثاني (يناير) 1999، يشعر الأميركيون أن عهد سيطرة الدولار ربما ستنتهي قريبا فيما لو انتصرت العملة الأوروبية في مزاحمة الدولار. ولهذا فإن العالم قد يرى نفسه منقسما بين الدولار واليورو والين، وربما استطاع اليورو مزاحمة الدولار وإقناع التجارة الدولية بالتعامل بعملة غير الدولار.

الأوروبيون منزعجون جدا من التصرفات الاميركية التي تحاول فرض العقوبات على بعض الدول وعلى بعض الشركات التي تربح مناقصة هنا وهناك، ويرون نفاقا سياسيا واضحا يعتمد على القوة الأميركية بدلا من العقلانية في التعامل. الأميركيون كانوا قد أصدروا قانونا أميركيا لمعاقبة أي شركة تتعامل مع ليبيا أو إيران، وهذا القانون يعتبر اعتداءا على سيادة الدول الأخرى وخرقا للقانون الدولي. ولهذا فإن الدول الأوروبية خرقت ذلك القانون وقالت إنها ستواجه أي تصرف برد مماثل، مما حدا بوزيرة الخارجية الأميركية للقول بأن فرض العقوبات على إيران وليبيا "صعب التنفيذ".

المسيرة الأوروبية حرية بالدراسة لفهم كيف استطاع أعداء الأمس (ألمانيا وجاراتها) أن يقيموا نظاما اقتصاديا متكاملا استطاع تخطي صعوبات التاريخ واختلاف المذاهب الدينية المسيحية واختلاف اللغات والعادات والتقاليد. لقد كانت نقطة تحول هامة عندما وافقت الدول الأوروبية على أمرين هامين في العام 1986... الأول هو تغيير طريقة اتخاذ القرارات، والثاني هو توحيد الضوابط الفنية لضمان حرية انتقال المنتجات والخدمات والسلع، عبر الحدود الأوروبية.

قبل العام 1986 كان الأوروبيون يصرون على مبدأ الموافقة بالإجماع على أي شيء قبل أن يصبح ملزما للدول جميعها. ولكن هذا الأمر استبدل وتم تطوير عملية اتخاذ القرارات بالنسبة لأغلب الأمور بطريقة التصويت المتوازن، بمعنى أم كل دولة لها عدة أصوات تناسب بصورة تقريبية عدد سكانها، ولهذا فإن ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا تملك كل واحدة منهن عشرة أصوات، بينما تملك أصغر دولة، لوكسمبورغ، صوتين.

وبسبب هذا الإجراء استطاع الأوروبيون اتخاذ قرارات سريعة تجاوزات معارضة دولة من الدول. ولهذا كانت بريطانيا مثلا تستطيع إيقاف أي قرار بمجرد ابداء معارضتها له قبل 1986. أما بعد 1986 فإن أغلب القرارات يخضع لنظام التصويت المتوازن "Qualitative Voting".

القرار الثاني هو توحيد الضوابط الفنية للسلع والخدمات والمنتجات. فقبل 1986 كان الأوروبيون يسمحون بتبادل السلع دون تعرفة جمركية ولكن كانت أكثر الدول الأوروبية تضع عراقيل أخرى، ففرنسا، مثلا، تقول "نعم نحن لا نأخذ تعرفة جمركية على هذه السلعة البريطانية، ولكن نمنع السلعة التي لا توافق الضوابط الفنية الفرنسية ". غير أن القرار الذي اتخذه الأوربيون في ذلك العام والذي أطلق عليه اسم "النهج الجديد The New Approach" هو تحديد ضوابط فنية أوروبية لأكثر المنتجات تداولا وبالتالي فإن كل سلعة تحمل أشارة "CE"، فإن ذلك يعني انها طبقت الضوابط الفنية الأوروبية، ولا يمكن لأي دولة أوروبية بعد ذلك ان تمنعها بحجة عدم الالتزام بضوابط محلية.

إشارة "CE" تعني أن السلعة "يجب" أن يسمح لها الدخول لأي دولة أوروبية دون تعرفة ودون أي حجة أخرى أيضا.

وفجأة اكتشف الأميركيون أن عليهم أن يحصلوا على شهادة "CE" لكي تتمكن سلعهم من التنقل في الدول الأوروبية، وفجأة بدأ الأميركيون، والأول مرة، دراسة قوانين تجارية غير أميركية.

فالأميركيون عادة لا يعرفون أي ضوابط وأي قوانين وأي إجراءات غير أميركية. غير أنهم يعلمون أن أوروبا لها ثلث التجارة العالمية على الأقل، وأن بإمكانها أن تحرم الأميركيين من هذا الثلث إذ لم تلتزم بالمقررات الأوروبية.

لهذا وكله فإن الحديث عن الحرب التجارية هذه الأيام يعني أن الأوروبيين بدأوا في مزاحمة الأميركيين بصورة حقيقية، ولول مرة. ولهذا فإنهم "يستحقون عقابا أميركيا".

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً