في شهر أبريل من كل عام يخرج من يذكرنا بان الأول منه هو "عيد الكذب" وهو يوم مسموح فيه بأن يكذب الإنسان. وقبل عدة سنوات خرجت صحيفة أوروبية محترمة لنشر خبرا كاذبا عن انقسام بلجيكا إلى بلدين... غير إننا في بلداننا الشرقية لا نحتاج لعيد للكذب. هذا ما قاله أحد مستشاري رئيس الوزراء اللبناني مؤخرا. فقد صرح بان "الكذب في لبنان لا يحتاج إلى عيد". وبما انه دبلوماسي اختص لبنان بالذكر، فلربما أراد القول إن الكذب في "بلداننا" لا يحتاج إلى عيد. فالصحافة والتصريحات الرسمية والقرارات هنا وهناك يختلط فيها الكذب بالصدق، ويضطر المواطن الاعتيادي لقلب الخبر رأسا على عقب لفهم ما يجري في بلده.
هيئة الإذاعة البريطانية تملك أكبر التجهيزات لبث الأخبار والتقارير باللغة العربية، والإذاعة العربية تأتي مباشرة بعد الإذاعة باللغة الانجليزية من حيث الحجم والقدرات. هذه الإمكانات الكبيرة لها دوافع كثيرة ومحفزات أهمها اهتمام المواطن العربي بالإذاعة البريطانية بصورة أكثر من المحطات المحلية. والسبق في هذا المجال يعود لكيفية تعاملنا مع الصحافة وفلسفتها.
فالعرب والمسلمون هم أضعف الأمم في الإعلام، ولازالوا لا يستطيعون إيصال كلمتهم للعالم بالطريقة الملائمة لقضاياهم الكبيرة. بل أن العربي والمسلم يضطر لنشر مقالاته في الصحافة الأجنبية لكي يحصل على درجة احترام أكبر، لأنه يستطيع القول بأنه محلل صادق وكاتب يخدم المهنة بدون الحاجة للتملق والكذب.
وهناك الكثيرون ممن يندبون حظهم لأنهم عرب ومسلمون وكيف يخسرون ابسط وأوضح القضايا بسبب عجزهم الإعلامي. ويعود هذا العجز لأسباب تاريخية وأخرى سياسية.
الأسباب السياسية هي عدم ثقة الماسكين بالسلطة بأنفسهم وعدم ثقتهم بأمتهم. ولهذا فإنهم بحاجة لاستخدام الإعلام كوسيلة ضغط لرأيهم الخاص على الرأس العام، بدلا من العكس. أما من الناحية التاريخية فيمكنها استقصاء بعض أسببا عجزنا في هذا المجال.
الصحافة هي أساس لا يمكن الاستغناء عنه في عالم اليوم القائم على قوة الكلمة وسعة انتشارها. والصحافة قامت على الطباعة والطباعة قامت على الورق الذي اكتشفه الصينيون قبل غيرهم. لقد اكتشف الصينيون الورق ولكن انتشار العلوم (بفضل الورق) لم يحدث إلا على أيدي المسلمين الأوائل. ففي أحدى المعارك بين الجيش الإسلامي وبعض القوات الصينية في آسيا الوسطى في العام 751م وقعت يد المسلمين على ماكنة لصناعة الورق. وسرعان ما انتشرت صناعة الورق في العالم الإسلامي إلى الدرجة التي إصدر فيها هارون الرشيد أمراً يفرض استخدام الورق (بدلا من ورق البردي وغيرها) في جميع مراسلات الدواوين والمكاتب التابعة لسلطاته. وسرعان ما أصبح العلم المكتوب على الورق في متناول اليد، وسرعان ما ظهرت مهنة الترجمة لترجمة العلوم ونشرها على الورق المصنع بصورة كبيرة. وهكذا بدأ المسلمون يسيطرون على العلوم ويطورونها وينشرونها.
غير ان الصورة بدأت تتغير في القرن الخامس عشر. فعلى العكس من الأوروبيين الذين استلهموا الدروس من المسلمين وبدأوا باستخدام الأوراق والمطابع في نهضتهم الفكرية، كان السلطان العثماني يصدر أمرا سلطانيا في العام 1485م يحرم فيه المطابع التي اخترعت في المانيا في 1440. ذلك التحريم (الذي صدر في 1485) أوقف عجلة العلوم لدى المسلمين، ولم يسمح إلا لبعض اليهود الذين لجأوا للمسلمين هربا من الاضهاد الكاثوليكي في اسبانيا في القرن السادس عشر. وهكذا بدأ اليهود نشر الكتب في اسطنبول وعدد من المدن العثمانية. وقد سمحت لهم السلطات العثمانية نشر الكتب (باستخدام المطابع) شريطة أن لا يطبعوا أي شيء باللغة التركية أو اللغة العربية. وقد أصدر بعضهم فتوى تبرر ذلك بالقول بأن المطابع إذا سمح لها أن تطبع باللغة العربية فسوف تحرف القرآن الكريم لاحقا!!
ولهذا فإن المطابع التي انشأها اليهود لم تستطيع طباعة أي شيء إلا بالعبرية وبعض اللغات الأوروبية الأخرى. ولم تستطيع المطابع العربية من الظهور إلى الحياة إلا في ايطاليا في مطلع القرن السادس عشر، ولكنها كانت تطبع الإنجيل فقط والكتب المسيحية. والمطابع العربية العثمانية لم تستطع الظهور إلا في القرن الثامن عشر (في حدود 1721م). وقد اشترط على هذه المطابع (العثمانية) عدم طباعة أي نسخة من نسخ القرآن أو الكتب الدينية!
قراءة سريعة لكيفية تعاملنا (كمسلمين) مع ركائز العصر الحديث نكتشف من خلالها لماذا يستطيع غيرنا إيصال رسالته للعالم بينما نعجز حاليا – نحن العرب والمسلمين – عن إيصال إي من قضايانا الواضحة للعالم.
إذا أردنا أن ننطلق بأمتنا إلى الأمام بدون الحاجة للكذب أو البكاء أو اتهام الآخرين فإن علينا أن نسمح بحرية الكلمة التي تقول بان الكذب على النفس أفضل من مصارحتها.
أن قدرات الأمة كبيرة جدا، وإمكانياتنا كثيرة، والمال متوفر لكثير من المجالات غير الإستراتيجية. إننا بحاجة لان نخلق صحافة حرة لكي نخلق سوقا رابحة لها. فالصحافة في البلاد المتطورة تعتمد على المبيعات والإعلانات، وهاتان الأخيرتان تعتمدان على سعة انتشار المطبوعة، وسعة الانتشار ليست قرارا رسميا وإنما تفاعل كامل بين المطبوعة التي تحمل الكلمة الصادقة وقرائها.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ