"انموذج" معين من الناس... هذا الانموذج هذا الذي يحدد طبيعة التوجه السياسي، وهذا الانموذج يتنوع من الزمن ويتنوع باختلاف الطبيعة السياسية للبلاد.

فمثلاً، كان " الانموذج" الذي تفتخر به رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر هو ذلك الإنسان صاحب المواهب التجارية. ذلك الانموذج ربما كان موجودا على أرض الواقع، وربما يحاول السياسي المسيطرة أو "المرأة السياسية المسيطرة" كما هو الحال في ثاتشر، فرضه على أرض الواقع. سياسات ثاتشر كانت في معظمها تصب لمصلحة تلك النوعية من الأشخاص الذين يسعون لشراء الأسهم وزيادة الربح المادي الشخصي من خلال التعامل بصورة حرة في سوق العمل والتجارة والصناعة والخدمات. ولهذا فقد ظهر انموذج الشخص الذي أطلق عليه البريطانيون في مطلع الثمانينات اسم "Yuppi".

وهذا الشخص يكون عادة شاب يتعامل بالأسهم في البورصة ويصبح ثريا جدا، وربما مليونيرا في اشهر معدودة. هذا الانموذج هو الذي كان في مخيلة السيدة ثاتشر وهي تصارع النقابات العمالية، وهي تمارس برامج الخصخصة، وهي تلغي القوانين التي تمنع الاستيراد أو التصدير لأسباب غير اقتصادية. مارغريت ثاتشر، خلقت الـ "Yuppi" وشجعت على الطمع في الأرباح ووقعت ضحية هذه السياسية في نهاية الثمانينات. فالشعب البريطاني ضج من الإخفاقات في السياسة المالية التي أردت في النهاية لازياد الفجوة بين الذين يملكون الكثير وأولئك الذين لا يملكون الكثير.

غير أن الشعب البريطاني انتخب حزب المحافظين أربع مرات قبل أن يقرر رميهم على جانب الطريق. الذين انتخبوا المحافظين في مطلع الثمانينات كانوا اولئك الذي يسعون للوصول للإنسان الانموذج الـ "Yuppi".

أما الانموذج الذي انتخب المحافظين في مطلع التسعينات فكان الانموذج الذي أطلق عليه البريطانيون اسم "Essex Man"، بمعنى "الفرد المقيم في مقاطعة ايسكس". هذا الفرد خسر كثيرا في النهاية الثمانيات بعد أن هبط سعر الجنيه وخسرت العوائل البريطانية منازلها وقروضها وازدادت البطالة، ورغم ذلك، لازال هذا الشخص القادم من ايسكس يصوت للمحافظين.

ومقاطعة ايسكس تقع شمال شرق لندن، وهي منطقة متوسطة في الدخل وتعتبر مؤشرا لتوجه الناخب البريطاني (مقاطعة ايسكس انتخبت ممثلي حزب العمال في الانتخابات الأخيرة).

وكان انموذج "Essex Man" قد ارتبط بعبارة " Essex Girl" أي الفتاة القادمة من مقاطعة ايسكس. فهناك الكثير من الطرائف البريطانية القديمة والحديثة حول نساء ايسكس. فنساء ايسكس تلصق بهن صفات حب المرح البريء وغير البريء وهكذا انتشرت في أوساط المجتمع البريطاني الطرائف السياسية – الاجتماعية في محاولة لفهم الإنسان البريطاني الذي خسر أمواله ولكنه لازال يصوت لحزب المحافظين. ومع نهاية التسعينات ومجيء حزب العمال إلى الحكم بثوب "جديد" انتهت ظاهرة الـ "Essex Man" وبدأ السعي وراء الانموذج الذي تسعى المؤسسة الحاكمة لرعاية مصالحه أو تطويره.

فرئيس الوزراء البريطاني الحالي، يحاول أن يقول أن هناك انموذجا آخر اسمه "Middle Britain"، أي (البريطاني الوسط). وهو بذلك يقلد الساسة الاميركيين الذين يقولون بإنهم يدافعون عن مصالح " Middle America" (الاميركي الوسط). ويحاول توني بلير القول بأن البريطاني الوسط هو الانموذج الانموذج المتعلم، المتدرب، العامل، المنتج والحاصل على جميع حقوقه لممارسة دوره بكفاءة.

إذا كان "الإنسان الانموذج" هو كذلك في بلاده مثل بريطانيا فإنه يختلف عن الإنسان الانموذج في بلدان أخرى. فالإنسان الانموذج الذي يحرك بعض البلدان هو ذلك الشخص الذي "يتزلف" للحاكم، أو ذلك الشخص الذي ينتمي لطائفة معينة، أو قبيلة معنية، أو جهاز معين أو فئة متطفلة معينة. والنظام يضع في اعتباره ضمان مصالح هذا الانموذج وهو يمارس العملية السياسية.

في بلاد أخرى يطلق على الإنسان الانموذج عنوان ديني مثل "المجاهد" ويقول النظام بتعريف ما يقصده من هذا التعريف (كما كان في الجزائر مثلا) ويحاول السعي لتلبية مصالح وآمال ذلك الانموذج. وفي بعض الأحيان يضع النظام "انموذجا" يسعى لمحاربته وتصفيته من الساحة السياسية. وأمثله ذلك كثيرة، مثل "الافغان العربي" "الإرهابيون" "المتطرفون"... الخ. ويتم توجيه العملية السياسية لتوحيد المجتمع تجاه الإنموذج الذي تحاربه السلطة.

بعكس انموذج "Essex Man" الذي يثير الطرافة و"الفرحة" في بريطانيا، نموذجا المطروحة تثير الحزن مرة وتثير الضحك مرة أخرى، ربما لان شر البلية ما يضحك.