أوردت الأخبار في الأيام القليلة الماضية أن شخصا بريطانيا في مطلع الأربعين من عمره انتحر لان التحديات الحياتية التي كان يتمناها قد انتهت. الرجل كان أحد أفراد الوحدة الخاصة التابعة للجيش البريطاني المعروفة باسم "SAS". هذه الوحدة تعتبر أشد الوحدات العسكرية الخاصة التي تعتز بها بريطانيا كثيراً، أفرادها يدربون على أصعب المهمات وأشرسها، ويتوقع من الذين ينظمون إلى هذه الوحدة أن يكونوا جاهزين لتنفيذ أي مهمة تعطى لهم في أي وقت وأي مكان. ويتحدث أحد أفراد هذه الفرقة في مذكراته أن جزءا من تدريبه كان يطلب منه وأصحابه (السريين) تقديم خطة للسطو على بنك. ويقول أنه عندما كتبوا الخطة ذهبوا إلى أحد المطاعم لتناول العشاء، وبسبب الإرهاق، نسوا الخطة في المطعم، وعندما اطلع عليها صاحب المطعم اتصل بالشرطة للقيام بمطاردة المجموعة واعتقالها، ألا إن الشرطة اكتشفوا أنهم يلاحقون أفراد القوات الخاصة الذين كانوا في "مهمة تدريبية"!
أفراد الوحدة الخاصة لا يعلن عن أسمائهم أو أين هم وكيف ينظمون عملياتهم. وحتى لو أرادت إحدى المحاكم البريطانية استدعاء أحدهم للإدلاء بشهادة معينة فإن على المحكمة القبول بشهادة مكتوبة كتبها شخص باسم "C"، "B"،"A" أو أي حرف ليس له معنى أو مدلول.
عندما كان الشخص المنتحر في مطلع العشرين من عمره كانت حياته مملوءة بالحيوية والتحديات التي تلبي طموحه كشاب يمتلك عضلات ومهارات خاصة وحماية قانونية ونفوذ وسمعة كبيرة داخل مؤسسة الحكم. كان هذا الشخص أحد أفراد الوحدة الخاصة الذين هجموا على السفارة الإيرانية في لندن (مابين 30 ابريل الى 5 مايو 1980)، عندما احتل السفارة عدد من الأفراد (قيل أنهم 3 أشخاص) وطالبوا بأمور كثيرة تترادف مع السياسة العراقية آنذاك التي كانت تتحدث عن العربستانيين داخل إيران.
وقبل أن يحتل هؤلاء الثلاثة السفارة الإيرانية كانوا قد اشتروا الكثير من الهدايا لأنهم كانوا واثقين من خروجهم سالمين من تلك العملية وأنهم سيسافرون إلى العراق. كان اختلال السفارة الإيرانية حدثا دراميا في العاصمة البريطانية، خصوصا عندما هجمت الوحدة الخاصة للجيش البريطاني، وكان جميع أفراد الوحدة ملثمون ويلبسون ثيابهم السوداء المعروفة وقد نزلوا على سقف مبنى السفارة واقتحموا المبنى بعد أن القوا متفجرات على الشبابيك ودخلوا هناك إلى الغرف باحثين عن الثلاث أشخاص الذين احتلوا السفارة. لم يجدوا سوى اثنين منهم وقتلوهم في الحال "دفاعا عن النفس"، كما شهد بذلك لاحقا أحد أفراد الوحدة الخاصة السريين.
تلك العملية الدرامية كانت تدار وكأنها أحد أفلام هوليوود لأن عدسة التلفزيون كانت تنقل الهجوم على الشاشة بصورة مباشرة. انتهى ذلك الحدث ومضت عشرون عاما ليكتشف أحد أفراد تلك الوحدة أن حياته فارغة من التحدي وانه لا يوجد لديه شيء ممتع يحثه على البقاء على قيد الحياة.
هذه النفسية نسمع عنها في عدد من الأخبار الأخرى التي تقول ان عددا من أفراد الوحدة الخاصة تبرعوا للقتال – بصورة مجانية، أو مقابل دفع أجور – في ساحات القتال في البوسنة وغيرها. ونسمع أن بعض أفراد هذه الوحدة شكل شركات للمرتزقة تستأجرهم بعض الدول للقيام بمهام أمنية داخل تلك الدول.
والحقيقة أن هناك جيل من هؤلاء الذين قد ينتحرون إذا لم تتوفر لهم ساحة قتال أو عمليات درامية للتنفيس عن طاقاتهم المتوفرة لديهم. فهؤلاء يتم تدريبهم لمواجهة أشرس الظروف، ولهذا فأنهم يأملون في مواجهة هذه الظروف لكي "لا يضيع تدريبهم". والمشكلة لدى هؤلاء أنهم قد يعملون أموراً أخرى غير الانتحار، فبعضهم على استعداد لرئاسة جهاز أمني لقمع شعب بأكمله دون هدف مقدس ودون أي وازع أنساني. وهؤلاء قد يتسنمون مناصب عليا الإدارة أجهزة قمع وقتل وتعذيب ضد أناس لم يحاربوهم أبدا ولم يتعرضوا لهم. وهؤلاء يمارسون هذه المهنة للاسترزاق أحيانا أو للتنفيس عن قدراتهم أحيانا أخرى. والمشكلة أن هؤلاء يصبحون مرضى ولا يستطيعون معالجة أمراضهم النفسية ألا من خلال القيام بهذه الأعمال حتى لو كان دون غاية، وحتى لو حولوا من أنفسهم إلى مرتزقة في خدمة الظالمين الذين يسعون لقمع شعوبهم عندما تطالب تلك الشعوب بحقوقها المسلوبة.
ربما أن الشخص الذي انتحر لم يعمل شرا لو قارناه بغيره يبحث عن وسائل أخرى لضمان استمرار التحدي في حياته، ربما أن الشخص الذي انتحر لم يعثر عليه احد حكامنا لاستئجاره للقيام "بعمليات خاصة". ربما أن الشخص كان شريفا وكان سيرفض مثل هذه العروض، ولهذا قرر الانتحار. لا نعلم أيا من الأسباب صحيحا ونارك الأمر لله سبحانه وتعالى، لكننا تعلمنا من انتحاره "لماذا يمارس أفراد آخرون أعمالا غير إنسانية في بعض البلدان".
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ